التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مشاهد سينمائية من وحي روايات نجيب محفوظ..


سيد عبد الجواد ''يتحدى'' جمال عبد الناصر                            

لم يترك نجيب محفوظ أثرا على الرواية العربية فقط، بل تجاوز ذلك إلى السينما عندما تحوّلت رواياته إلى أفلام ومسلسلات كثيرة، ومن خلال الأفلام الذي كتب لها السيناريو والحوار· وتجاوزت شخصياته الرواية المجسدة سينمائيا شهرة الكثير من نجوم السياسة والفن والرياضة.
نجيب محفوظ بين شخصياته 

الخير شوار

من يعرف سعيد مهران وسيد عبد الجواد؟ بل من لا يعرفهما؟ إنهما من أشهر ''الناس'' في العالم العربي في القرن العشرين، وتكاد شهرتهما تتجاوز كبار السياسيين والفنانين ولاعبي كرة القدم· وليس سعيد مهران وسيد عبد الجواد إلا من الشخصيات الورقية التي أبدعتها مخيلة الروائي نجيب محفوظ، لكن الشخصيتين تحولتا مع مرور الزمن إلى أكبر الفاعلين في المشهد الثقافي العربي عندما تحولتا إلى السينما· وبقدرة الفن لبس سعيد مهران الذي نشأ في ''أحضان'' رواية ''اللص والكلاب'' شخصية الفنان شكري سرحان، وقد أعطى بعدا جديدا لأشخاص هامش المدينة العربية وجعل عموم المشاهدين يتضامنون مع ذلك ''المجرم'' الذي أصيب بطعنة في كرامته عندما خرج من السجن ويجد حبيبته ''نبوية'' وقد تزوجت صبيه وتابعه ''عليش''، ويجد في النهاية نفسه في مواجهة أعداء كثيرين من ''المحترمين'' ولم يجد من يسنده إلا ''نور'' بائعة الهوى، وينتهي نهاية مأساوية حيث الكلاب والكلاب البشرية تطارده من مكان إلى آخر·

ولا تقل شخصية سيد عبد الجواد شهرة وتأثيرا في الثقافة العربية المعاصرة عن شخصية سعيد مهران، وسيد بدوره كان مجرد شخصية ورقية في رواية ''بين القصرين'' التي تطورت إلى ثلاثية (بين القصرين، وقصر الشوق والسكرية)، أصبحت أيقونة التحولات العميقة التي عرفها المجتمع المصري منذ بداية ثورة 1919 إلى غاية التحولات العميقة التي جاءت بعد حركة الضباط الأحرار في 23 جويلية ,1952 ولا يكاد يذكر اسم سيد عبد الجواد إلا مقرونا باسم الفنان يحيى شاهين الذي جسّده ببراعة كبيرة، وجسد معه شخصية أب الأسرة الشرقي الذي تتقاسمه الطيبة والجلافة والتفتح والانغلاق كـ ''بطريك'' حقيقي لا يستطيع أحد من أبنائه النظر فيه أو مناقشته من شدة قوة حضوره· واستطاعت هذه الشخصية التي أنجزها المخرج حسن الإمام في ثلاثة أفلام كاملة، أن تتحوّل إلى ظاهرة شعبية، وأصبح الرجل الشرقي المنغلق ينعت بـ ''سي السيد'' (سيد عبد الجواد) وكانت الثلاثية في صيغتها الروائية كما في صيغتها السينمائية خير وثيقة ترصد التحوّلات العميقة التي عرفها المجتمع المصري، وقد كتبها نجيب محفوظ بعد فترة صمت طويل كان مجبرا خلالها على مراجعة كاملة لأفكاره حتى يقرأ صيرورة مجتمعه، وقد تغيّر بشكل كامل إثر نهاية المرحلة الليبيرالية الكبيرة التي جاءت في أعقاب ثورة ,1919 وتمكن بالفعل بعد فترة المراجعة هذه من قراءة مجتمعه مثلما نجح في قراءته قبل ذلك التحوّل الكبير وبعده·
ويخطئ من يختزل نجيب في أنه مجرد كاتب، ويصل التسطيح إلى حد تبرير فوزه بجائزة نوبل للآداب سنة 1988 في تأييده لاتفاقية كامب دايفد التي أبرمت سنة ,1979 وإن كان الأمر له صلة فكيف يتأخر كل تلك السنين وكان يمكن أن يتم في بداية ثمانينيات القرن العشرين لا في نهايتها· وبعيدا عن الطريقة المحفوظية في الكتابة التي تطورت مع مرور الزمن، وهو القادم من الفلسفة وقد تتلمذ على يد المفكر الراحل سلامة موسى، ليجد نفسه منجذبا للرواية التاريخية الفرعونية، ليتحوّل إلى الكتابة الاجتماعية التي تغوص في تفاصيل الحارة القاهرية بكل شخصياتها الهامشية (خان الخليلي، القاهرة الجديدة، زقاق المدق···) ليتحوّل إلى الكتابة الجريئة سياسيا التي تغوص في أعماق نفوس شخصياتها (ثرثرة فوق النيل، وميرامار··) وصولا إلى رواياته الأخيرة ثم الكتابة الشذرية التي ختم بها حياته، وقد مارسها في أعوامه الأخيرة عندما تجاوز الثمانين من العمر وعانى الشيخوخة، إضافة إلى أثر الاعتداء عليه في محاولة اغتياله سنة .1995 ئ
ومثلما كان نجيب محفوظ أحد أهم مفاتيح نجاح الرواية العربية في طريقها إلى العالمية، كان أيضا أحد أهم مفاتيح نجاح السينما المصرية في عصرها الذهبي· وبعيدا عن روايته الكبيرة التي تحوّلت إلى أشهر الأفلام والمسلسلات التلفزيونية دون أن يشارك في إعادة كتابتها سينمائيا، كان نجيب محفوظ كاتب سيناريو محترف، وكان من أنشط الكتّاب للسينما مباشرة أو تحويل روايات غيره إلى السينما، وبدأ تلك المغامرة سنة 1945 عندما ساهم في كتابة فيلم ''مغامرات عنتر وعبلة''، ثم فيلم ''المنتقم'' وصولا إلى مرحلة النضج مع أفلام ''ريا وسكينة'' و''جعلوني مجرما'' و''درب المهابيل''··· وغيرها من كلاسيكيات السينما المصرية في عصرها الذهبي· وتبقى مسألة فصل نجيب محفوظ بين رواياته وكتابته السينما، وهو المحترف في المجالين، موضع تساؤل، غير أن الذين عرفوه عرفوا فيه صرامته في الفصل بين الأشياء وتعددها وعدم تدخله إطلاقا في نظرة المخرج الذي يشتغل على واحدة من رواياته حتى ولو كان الأمر يتعلق بواحد من مقربيه مثل المخرج الراحل صلاح أبو سيف·
وتمكن هذا المخرج بالفعل من قراءة مبدعة لكثير من الروايات التي اشتغل عليها، وشخصيا لا أنسى مشاهد فيلم ''بداية ونهاية'' الذي شاهدته صغيرا قبل أن أقرأ الرواية بين يدي، الفيلم الذي أبكاني صغيرا، ولا أنسى الشخصيات التي جسدها الفنانون عمر الشريف وفريد شوقي وسناء جميل، الأشقاء القادمون من هامش الهامش والشقيقة تعمل ليلة نهار في الخياطة قبل أن تقع في المحظور وتمارس الجنس مع أحد أصحاب الدكاكين من أجل دراهم معدودة تمنحها لشقيقها (عمر الشريف) الذي أصبح في النهاية ضابطا ''قد الدنيا'' وكان شقيقه فريد شوقي يعمل ''فتوة'' من أجل كسب لقمة العيش للعائلة المعدمة، لكن الفتى الذي ترقى في السلم الاجتماعي، وعوض أن يكافئ إخوته أصبح يخجل منهم، وهم الذين يذكّرونه بأصله، ووافق في الأخير على ''لجوء'' شقيقته إلى الانتحار رميا في وادي النيل حتى يغسل نفسه من ''عارها'' وتفعل ذلك وحينها أدرك بؤس نهايتها التي كانت تشبه البداية البائسة، وفي لحظة صدق يقرر الالتحاق بشقيقته، وقد انتحر هو الآخر عندما رمى بنفسه في النيل·
إنها بعض المشاهد السينمائية التي جسدت شخصيات نجيب محفوظ الروائية، تلك الشخصيات التي كانت أصدق وأعمق ممثلي الثقافة المصرية بكل تحولاتها في القرن العشرين·

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة