التخطي إلى المحتوى الرئيسي

في ضيافة ملك اللوبيا الذي لا يظلم عنده زوالي


 شارع "طونجي".. مونجي.. دونجي

إذا كنت في يوم شتوي بارد، وتبحث عن لقمة ساخنة تدفئ أمعاءك فلن تجد أفضل من ملك اللوبيا، في شارع طونجي الشهير، غير بعيد عن ساحة الأمير عبد القادر من جهة والولاية حيث كان مقر شوفاليي حاكم الجزائر زمن الاحتلال الفرنسي من جهة أخرى، لكن احذر أن تذهب في ساعة متأخرة من الليل عندما يتحول شارع "طونجي" إل شارع "دونجي" وقد امتلئ المكان باللصوص والمتشردين: 

روبورتاج: الخير شوار
شارع يحمل أكثر من اسم.. رسميا هو شارع "أحمد شايب" ويمتد من مسجد عبد الحميد بن باديس المقابل لمحكمة سيدي امحمد بشارع عبان رمضان، وينتهي عند آثار عمارة تحولت إلى مساحات لبيع النباتات مقابل مبنى المجلس الشعبي الوطني وولاية الجزائر من جهة شارع حسين عسلة، وغير بعيد من الجهة الأخرى عن ساحة الأمير عبد القادر بشارع العربي بن مهيدي، ولا يوحي اسم الشارع عند عموم الناس أي شيء فهم يعرفونه باسم آخر، بل بأسماء أخرى مرتبطة بمراحل اليوم. وهو شارع "طونجي" (طنجة) في الصباح، ليتحول عند منتصف النهار إلى شارع "مونجي" (من الأكل) ليستمر كذلك إلى غاية الليل عندما يتحول إلى شارع "دونجي" (خطر)، فعندها يغلق أصحاب المطاعم محلاتهم ويصبح الشارع تحت رحمة اللصوص والمتشردين ولا أحد يضمن سلامته الشخصية إذا اقتحم المكان في تلك الأثناء دون أن يكون مستعدا أتم الاستعداد لذلك.
والشارع الذي يبدو ساكنا في الصباح الباكر، أهم ما يلفت الانتباه فيه إضافة إلى الوضع الكارثي للعمارات الآيلة للسقوط هو عدد المطاعم الشعبية التي لا تكاد تحصى، وربما تتساءل عن سر ذلك العدد من المطاعم ولمن يبيع أصحابها، غير أن السؤال يصبح بلا معنى عندما يقترب الوقت من منتصف النهار، عندما يتحول "شارع طونجي" إلى "شارع مونجي" بالفعل.

كولومبو يغادر ملك اللوبيا
في يوم عاصمي بارد وممطر يجد المرء نفسه مدفوعا إلى "مملكة اللوبيا" بوسط شارع طونجي. كان الوقت يتجاوز قليلا الواحدة زوالا مع أمل أن نجد مكانا عند ملك اللوبيا دون الانتظار في الخارج عند المكان المخصص للفقراء والمساكين الذين بإمكانهم احتساء طبق لوبيا لذيذ مجانا وعلى نفقة الملك نفسه، الذي كان قد نهض ككل يوم قبل الخامسة صباحا وأعد الطبق اليومي المكرر الذي يتمثل في حساء اللوبيا وأشرف على قلي السردين بطريقته الخاصة، وسلطة الفلفل الحار المشوي، وهي قائمة الأطباق التي للم تتغير من سنين طويلة، ربما منذ افتتاح المطبق قبل ثلاثين سنة من الآن. لكن الأمل خاب وعدد الزبائن فاق عدد الأماكن المخصصة لهم داخل ذلك المثلث الضيف الذي يمثل المطعم، وكان بعض الزبائن ينتظره دوره بالخارج. ومن الداخل يبدو المحل نفسه منذ كان قبل سنين، الطاولات هي نفسها والكراسي المتواضعة التي لا تسند الظهر نفسها، لكن الشيء المتغير، هو وجوه العمال، وقصاصات الجرائد الموجودة عند المحسب، التي تمثل ما كتبته الجرائد الوطنية عن ذلك المحل التي تتغير في كل مرحلة رغم أنها موضوعها واحد، وهذه المرة يفتخر ملك اللوبيا بقصاصة جريدة كتب فيها أحدهم أن وجبة عند ملك اللوبيا أهم عنده بكثير وألذ من وجبة في فندق الشيراطون بكل فخامته، كما تغيرت أيضا وجوه العمال، ولم يعد هناك حسين القابض بلحيته ولا حتى "كولومبو" بصلعته وطريقته الخاصة في التعامل مع الزبائن، وعندما أسأل عنهما يقول العاملون الجدد أنهم غادروا كل إلى وجهته، كما أن أسعار الوجبات قد تغيرت، وأصبح طبق لوبيا مضاف إليه ملعقة زيت زيتون بـ90 دينار، أما طبق السردين فهو لا يقل عن 150 دينار في حين كأس قازوز بقي بـ10 دينانير، وطبق سلطة الفلفل الحار لم يتجاوز بدوره الخمسين دينار، ولا يحتاج المرء إلى تبرير لارتفاع الأسعار التي يبقى رغم كل شيء في متناول الزبون الزوالي، وسعر الكيلوغرام من اللوبيا يقترب من 200 دينار جزائري أما الكيلو غرام من السردين في السوق فهو يتجاوز أحيانا الـ300 دينار جزائري. لقد حضر كل شيء وحافظ طبق اللوبيا هناك على لذته الأولى التي اكتشفتها قبل سنين، ولم يكن غائبا إلا الملك "عمي علي" الذي قيل بأنه خرج من المحل بعد أن كان هناك وقد يعود في الساعة الثالثة بعد الزوال كما جرت العادة، ولم يكن ممكنا الحديث عن شارع طونجي دون الحديث إلى الملك عمي علي، الذي تعلق صورته عند مدخل المحل إضافة إلى قصاصات الجرائد المتعددة.

ابن سينا يتحدى أطباء العصر
بجانب "ملك اللوبيا" إلى جهة مسجد عبد الحميد بن باديس، يوجد محل صغير جدا لبيع المحاجب و"الكسرة الهندية" كما يقول، وهي لذيذة جدا ولا يزيد سعرها عن الـ25 دينار، كما يوجد كشك لبيع الجرائد، لصاحبه عمي الطيب الذي يتكلم عن شارع طنجة ويومياته ويستعيد ثلاثية (طونجي، ومنجي، ودونجي) ويقول بأن ما كان يميز الشارع المهددة عباراته بالانهيار قبل سنوات هو محلات تصليح أجهزة التلفزيون التي كادت تختفي مع استثناءات قليلة جدا، أما عدد زبائن المطاعم ومنها "ملك اللوبيا" الذي بجواره فيراه يتزايد مع الوقت. وبالمقابل هناك صيدلية ابن سينا للأعشاب الطبية لصاحبها فركوس الذي ورثها عن جده ثم أبيه، ويفتخر بدوره بسمعة الصيدلية من خلال قصاصة الجرائد التي تعود إلى سنين طويلة وتشيد بأدويته التقليدية، وبدا واضحا اهتمام الناس بالوصفات التقليدية والزبائن لا ينقطعون في أي لحظة، ويرى أن وصفاته التقليدية لا تتناقض مع الطب الحديث بل هي مكملة لها وهو نفسه يذهب إلى الطبيب في بعض المرات، ولا يرى أن وصفاته التقليدية تسببت في إضرار لأي زبون على مدى تاريخها الطويل، وهو معتمد ويعمل في إطار القانون.

في ضيافة الملك
كان الوقت قد تجاوز الثالثة مساء، ورغم ذلك فإن حركة الزبائن عند محل ملك اللوبيا لم تهدأ ولم نعد ندري إن كان الزبائن يتناولون غذاء متأخرا أو عشاء متقدما، ولا يملون من طلب أطباق اللوبيا الساحنة وسط المطر والجو البارد. لقد تأخر الملك قليلا عن موعده اليومي، لكنه يأتي بعد قليل، وبدا الملك بهندامه المتواضع مقاوما للسنين التي لم تنهكه وهو الآن في عمرة الاربعة والسبعين، ومازال كما يؤكد لنا يعد طبق اللوبيا اليومي بنفسه ويشرف على إعداد الأطباق الأخرى، وهو المولود في عنابة ويؤكد أن مطعم اللوبيا هذا فتحه سنة 1978 ويذكر ذلك جيدا لأن فتحه تزامن مع وفاة الرئيس الأسبق هواري بومدين يوم الأربعاء 27 ديسمبر من السنة نفسها، وقبلها كان يعمل في مطعم بالقصبة المدينة العتيقة للجزائر العاصمة، قبل أن يأتي إلى شارع طنجي الشعبي. ولم يكن المحل الذي لا تتجاوز مساحته الأمتار المربعة القليلة مكانا مناسبا للحديث مع الملك الذي اضطر لاستقبالنا في المقهى المجاورة، وهو يتكلم عن الوصفة السرية السحرية لطبق اللوبيا العلامة المسجلة باسمه والتي لم يستطع أي من عماله السابقين تقليدها مئة في المئة.
ما السر في طبق لوبيا مالك اللوبيا؟ نسأل، ويجيب بكل تلقائية أنه يستعمل يوميا كمية لا تقل عن الخمسة كيلو غرام كاملة من الثوم مثلا حتى ولو كان سعر الكيلو غرام من تلك المادة يباع بـ600 دينار كاملة، إضافة إلى بهرات أخرى. ألا تخشى من أن يسرق لك عمالك تلك الوصفة السرية؟ نسأل مرة أخرى ليجيب: هناك شيء لا يمكن سرقته حتى ولو طبقوا الوصفة بدقة متناهية، وهو اللمسة الخاصة، فلـ"اليدين" سحر خاص ولا يمكن بأي حال من الاحوال نقل ذلك السر، إنه كالبصمة التي تقبل التزوير، وقد حاول عماله السابقون بالفعل تقليده دون أن يتمكنوا من الحصول على ذلك الطعم وشارع طونجي نفسه ممتلئ بمحلات عماله السابقين دون أن يؤثر ذلك على سمعة وشهرة مطعمه الصغير المتواضع الذي يبدأ فيه الحركة في الصباح الباكر ولا تهدأ إلا عند تجاوز الساعة التاسعة ليلا. ويذكر عمي على أن زبائنه وإن كانت الأغلبية الساحقة من الفقراء ومحدودي الدخل، فهذا لا يمنع من زيارة بعض الأثرياء وتناول طبقة لوبيا عنده بدافع حب الاكتشاف وكثيرا ما تتكرر زيارة هؤلاء، وهناك فئة أخرى من الزوار وتتمثل في بض الشخصيات الفنية والسياسية التي بقيت تحن إلى المكان رغم الأبهة التي هي فيها الآن وفي هذا الصدد يذكر السيدة خليدة تومي وزيرة الثقافة الحالية التي مازالت وهي وزيرة تذهب إلى ملك اللوبيا عندما تسمح لها الظروف بذلك.
وعن سر اختيار اللوبيا كعنوان للمطعم وطبق رئيسي فيه، يقول المالك أن السر يكمن في أنه يجيد صناعة هذا الطبق أكثر من غيره منذ زمن طويل، ولما كان المحل ضيقا اضطر للتخصص فيه، وعندما تجاوزت شهرته الآفاق اسماه الناس "ملك اللوبيا" وحافظ على العنوان منذ أكثر من ثلاثين سنة، وعن تاريخ الشارع يقول عمي علي أنه يذكر بأنه كان شعبيا منذ القدم، لكنه كان ممتلئا بمحلات بيع الخمور التي كادت تختفي نهائيا إلا مع استثناءات قليلة، وفي المقابل زاد عدد المطاعم بزيادة عدد الزبائن المتزايد مع الوقت.

قبل الانهيار
شارع طونجي ليس هو مالك اللوبيا فقط، فمطاعم الزوالية تكاد لا تحصى ومطاعم اللبن والسردين المشوي وباعة المحاجب يملؤون المكان، غير بعيد عن مقر حزب الجبهة الوطنية الجزائرية برئاسة موسى تواتي. وفي الوقت الذي يطالب فيه البعض بتصنيف مالك الوبيا ضمن التراث الثقافي الجزائري غير المادي، فإن هذا المعلم الثقافي الكبير مهدد بالزوال في أي وقت والكثير من عمارات الشارع مهددة بالانهيار، ومنها المطاعم نفسها، وسبق وأن انهار أحد المطاعم على من فيه قبل حوالي ثلاث سنوات من الآن وحلف الحادث قتلى وجرحى حينها.                   
     

تعليقات

‏قال saadeddine
كوميدا البرد هذه التي تتحدث بلسانها أظن.
لكن على العموم روبورتاج في القمة.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة