التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ثنية العابد -باتنة

ما أبعد المسافة بين الموت و"شير"

أدغال الأوراس حيث كل صخرة وشجرة تحكي حوادث الثورة، كانت إلى غاية النصف الأول من العشرية الحالية وانطلاقا من منتصف التسعينات بمثابة «منطقة محرمة» حيث كانت تسيطر الجماعات المسلحة، لكن الحياة عادت من جديد حيث ثنية العابد وشير وغيرها، ومن باتنة المدينة بدأت الرحلة حيث تعاد الحكاية من جديد.

روبورتاج: الخير شوار
مدينة باتنة في صباح شتوي من هذه السنة الجديدة.. لم تكن المدينة نفسها التي زرتها لأول مرة سنة 1997، توسعت كثيرا وتغيرت ملامحها أكثر انطلاقا من محطة نقل المسافرين الجديدة العملاقة التي عوضت تلك التي كانت في وسط المدينة وتحولت الآن إلى ورشة للأشغال وبالكاد بدأت استعيد ملامح باتنة القديمة انطلاقا من تلك المحطة «السابقة» لأعيد تشكيلها من جديد.. كان الجو بين المطر والصحو وسألت عن أخطر منطقة تعرضت لعنف الجماعات المسلحة في السابق وكان الرد هو «ثنية العابد» وما جاورها، وكان لابد من الذهاب إلى تلك المناطق في ذلك اليوم البارد.

التوغل في قلب الأوراس
عند مشارف باتنة تجد لوحة مكتوب عليها «تونس- تبسة»، فتشعر بأنك ذاهب إلى خارج البلاد، لكن لافتة أخرى تعيدك إليها وهي التي تشير إلى تيمقاد المدينة الرومانية الأثرية وخنشلة وغير بعيد عن هناك تبدو مدينة تازولت التي عرفت منذ القدم بـ»لومبيز» بسجنها العتيق، ذلك السجن الذي كان مليئا بالناشطين الإسلاميين تسعينيات القرن الماضي ونجحوا في عملية فرار جماعي سنة 1994 وكان عددهم حوالي 1200 سجين وألحقوا كلهم بالجماعات المسلحة التي كانت تثير الرعب وتسيطر على مساحات واسعة من جبال الأوراس، ساعتها بلغ الخطر مداه وأصبحت بعض القرى خالية من سكانها الذين نزحوا إلى المناطق المجاورة، ولم يكن السير في تلك الطريق بهذه السهولة، وتغيب صورة السجن وأحداثه قليلا عند مخرج تازولت والأثر الروماني الذي يظهر من بعيد كأنه يمهد لمدينة تيمقاد ذائعة الصيت، وهنا يؤكد محدثي أن المنطقة كانت رومانية بالفعل ويمتد محورها إلى تبسة شرقا، لكننا لن نمر بتميقاد الرومانية ولا حتى بتيمقاد الحديثة التي تعيش إلى جنبها ومفترق الطريق يفرض ذلك ويخيّرك بين طري آريس- بسكرة وطريق تيمقاد خنشلة و»ثنية العابد» لابد من الذهاب إليها على طريق آريس، وعندها تبدأ التضاريس الصعبة لعمق الأوراس، ويتراوح الجو بين الصحو والمطر وبعض النتف الثلجية، وهناك حيث القمة تلمح سحابا الضباب أو ضبابا كالسحاب وكان ذلك عند حدود بلدة «وادي الطاقة» عندها وفي ذلك الجو المتراوح بين نتف الثلج وزخات المطر والشمس تخيّر بين الذهاب إلى آريس والذهاب إلى ثنية العابد وعندها تنتهي مشاهد الثلوج وكأنك تدخل منطقة مناخية مختلفة عن الأولى وتقترب ثنية العابد أكثر حيث سلسلة جبال الأوراس تراها على مدى البصر، تحكي تاريخا طويلا بقيت آثاره عند كل نقطة حيث نصب تذكاري يؤرخ لواقعة من وقائع الثورة التحررية، كما تؤرخ مثلما يحكي سكان المنطقة ما فعلته الجماعات المسلحة في السنين الماضية وكانت بعض المناطق محرّم الدخول إليها ويبدأ حضر التجول فيها وقت العصر قبل أن يتراجع نفوذ تلك الجماعات سنة بعد أخرى، وعند الاقتراب من ثنية العابد تعود صورة آريس من جديد من خلال الطريق الفرعي الذي يؤدي إليها ويختفي طيف آريس لتبدأ صورة ثنية العابد بمنازلها التي تبدو جديدة في إصرار واضح على ممارسة الحياة رغم كل ما حدث قبل سنين من الآن.

بين زمنين
لا تنتهي الطريق تلك عند ثنية العابد فهي تمتد إلى منعة مرورا ببلدة شير، وثنية العابد لم تتضرر من عنف الجماعات المسلحة مثلما حدث في «شير» التابعة لها، والطريق إلى شير يختلف عما سبقه، فعلى سفوح جبال الأوراس المحيطة بتلك الطريق تلمح المنازل العتيقة المبنية على النمط الشاوي القديم مهجورة بمساجدها ومدارسها وحتى بعض البنيات الجديدة التي شيدت عندها، وعندما تسأل تعرف أن ساكني تلك الديار غادروها أيام «المحنة الوطنية» صوب المدن المجاورة، وعندما استقر الوضع وعادت الحياة إلى «شير» فضّل الكثير منهم العودة إلى هناك لكن إلى مساكن جديدة شيدت عند الطريق معزولة عن الجبل الذي سكن عنده أجدادهم منذ آلاف السنين، ووسط طبيعة ساحرة وأشجار مثمرة لم تورق بعد في فشل الشتاء هذا وتنتظر حياة جديدة في الربيع الذي هو على الأبواب، وقلب بلدة شير عبارة عن مساكن جديدة على حافة طريق الأسفل المؤدي إلى منعة حيث تحيط بها جبال الأوراس والأكواخ والمساكن القديمة المهجورة التي بقيت شاهدة على الرعب الذي كان، وحتى مقر البلدية فهو جديد وبني مكان مقر البلدية القديم الذي أحرقته الجماعات المسلحة عندما كانت يسيطر أفرادها على البلدة، لكن الحديث عن سنوات الرعب تلك يحيل دوما إلى أيام الثورة التحررية التي انطلقت رسميا وراء ذلك الجبل على بعد حوالي 7 كيلومتر من تلك المنطقة وفي المكان المسمى «تاغيت»، ويستذكر (س. م) وهو من مجاهدي الثورة التحررية حادثة مقتل 37 من جنود المرتزقة في الجيش الفرنسي، وتم حرق أربع شاحنات عسكرية واستولى المجاهدون على ذخيرتهم الحربية، وهناك أسقطوا أربعة شاحنات عسكرية تحمل 18 جندي فرنسي، ليعرج بعد ذلك إلى الحديث عن الجماعات المسلحة التي بدأ خطرها في المنطقة سنة 1993 واشتد سنة 1994 ليبلغ أوجّه سنة 1997، ويقول بأنهم تمكنوا قبل ستة أشهر من القضاء على ثلاثة عناصر من فلول الجماعات المسلحة ويقول بأن تلك الجماعات التي كانت تصول وتجول تراجع نفوذها بدرجة كبيرة بعد سنة 1997 وكاد نشاطها ينعدم هناك بعد سنة 2003 وتلقت آخر الضربات الموجعة سنة 2005 ولو أن بعض عناصرها مازالوا في مناطق بعيدة جدا في أدغال جبال الأوراس، وانطلاقا من 2005 عادت الحياة شيئا فشيئا إلى بلدة شير التي هجرها معظم سكانها في السنين الماضية، لكنهم لم يعودوا إلى أكواخهم ومنازلهم عند سفوح الأوراس بعيدا عن طريق الإسفلت الذي يؤدي إلى ثنية العابد من جهة وإلى منعة من جهة أخرى، وإنما عادوا ليشيدوا تلك المنازل الجديدة التي للأسف تفتقر إلى الأصالة العمرانية، وكانت تلك الجماعات في سنين قوتها تنزل إلى قلب شير ويقتحم عناصرها بيوت بعض الناس من أجل الاستيلاء على بعض قطع السلاح التي كانت بحوزتها، ثم يشير محدثنا (س. م)  إلى الدكان الذي كان غير بعيد عنا ليقول بأن تلك الجماعات كانت قد استولت على المواد التموينية التي كانت بحوزته واعتدوا عليه في السنين الماضية. أما عن الأكواخ القديمة التي كانت تظهر من بعيد عند سفوح جبال الأوراس فيقول (س. م) بأنها مهجورة منذ زمن الثورة التحررية عندما كان جنود الاحتلال يعتدون بوحشية على السكان انتقاما من العمليات التي كان ينفذها أفراد جيش التحرير الجزائري، لكن بعض التجمعات السكانية في مناطق أخرى فقد كانت مسكونة إلى غاية بداية التسعينيات، فلم يبق أحد هناك وبقيت تلك الحيطان ببعض منازلها الفخمة ومدارسها ومساجدها شاهدة على رعب الجماعات المسلحة التي أجبرت السكان على الرحيل صوب المدن المجاورة، وعندما شدها الحنين إلى أصلها عاد الكثير إلى قلب قرية شير، ويقول البعض ساخرا أن الكثير من السكان ألفوا حياة المدينة السهلة على حياة الجبال القاسية التي وجدوا أنفسهم فيها.

الحياة على طريقة أهل «شير»
تعيش بلدة شير وتتنفس السياسة وتقرأ ذلك من مواقف الحافلات المكتوب عليها شعارات أحزاب تحاول الاستحواذ على أصوات الناس في مناسبات انتخابية مختلفة، ويستمر (س. م)  في الحديث عن الثورة التحررية مرة وعن يومياته في محاربة الجماعات المسلحة مرة أخرى، ثم يعرج للحديث عن بعثة صحافية فرنسية كانت قد زارت المنطقة في السنوات الأولى من الاستقلال بين 1966 و1967 لا يذكر بالضبط، لكنه يذكر أنهم جاؤوا بصدد إنجاز عمل صحفي عن حوادث الثورة التحررية وكانت البعثة الصحفية الفرنسية الوحيدة التي ذهبت إلى هناك، ليشير إلى قرية غير بعيد هناك على سفح الجبل ويقول بأنها كانت ملجأ لتلك الجماعات وكانوا يسمونها «كابول» نسبة إلى العاصمة الأفغانية التي تحيل إلى الحرب الأفغانية التي أنجبت ما سمي إعلاميا «ظاهرة الأفغان العرب»، وفي كل مكان نمر بها يتذكر حادثة.. «هنا أقاموا حاجزا مزيفا وعندما جئنا لقتالهم فروا هاربين، وكان نتيجة ذلك جروحا أصابت أحد الأشخاص»، وبعدها يضيف»هنا نصبوا كمينا في شكل قنبلة، وفي وسط شير يلتفت إلى المسجد ليؤكد أنهم اقتحموه في يوم عيد قبل سنوات ولم يجدوا من كانوا يبحثون عنهم من أعدائهم، وعير بعيد هناك حيث «ثنية المطحنة» أو تاسبقونت باللغة المحلية كانوا قد نصبوا كمينا في شكل قنبلة مسيرة عن بعد وتمكنوا من تفجير دبابة دون أن يتمكنوا من قتل أحد، وفي المنطقة المسماة «فرج القاضي» أحرقوا حافلتين منتصف تسعينيات القرن الماضي لم تسقط أي ضحية، لكنهم تمكنوا سنة 1998 من قتل ستة مواطنين إضافة إلى أحد أفراد الحرس البلدي عندما قاموا بنصب حاجز مزيف على الساعة الثامنة ليلا، في المكان نفسه التي كانت عجوز شاوية بملابسها المحلية المميزة ترعى قطيعا من الماعز. وكل ذلك أصبح في حكم الماضي فقد تغيرت المعطيات حاليا وشير تستقبل الحياة من جديد بعد أن صارعت الموت طويلا، وعلى هضبة هناك كانت طفلة تستقبل الحياة على طريقتها الخاصة وهي ترعى قطيعا صغيرا من الماعز، والأشجار التي أسقطت أورقها في الخريف الماضي منكفئة على نفسها في هذا الفصل البارد، لتورق من جديد لاحقا.

ما أبعد المسافة التي بين «منعة» و«شير»
وأنت في قلب بلدة شير، بامكانك العودة إلى باتنة أو الذهاب إلى آريس عن طريق آخر وكانت آريس تحوي مقر الدائرة التي كانت تنتمي إليها شير قبل أن تتحول ثنية العابد إلى دائرة مستقلة، وبامكانك الذهاب إلى مدينة «منعة» على الطريق الآخر.. وهنا استعيد مقطعا من أهازيج فرق «الرحّابة» الشاوية التقليدية ترجمه لي صديقي يوسف مفادها: «لنبدأ السير، ما أبعد المسافة التي بين «منعة» و»شير»، لكننا لم نذهب إلى منعة بل كان الطريق إلى آريس حيث التاريخ مفتوحا على شكل كتاب صفحاته من جبال تسرد آلاف الحكايا.
ملاحظة: أنجز هذا الروبورتاج في شتاء 2009 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة