التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الشيخ عبد الرحمن الجيلالي: موسوعة جزائرية في الذاكرة


الشيخ عبد الرحمن الجيلالي

قبل سنتين من وفاته في 12 نوفمبر 2010، احتفل الشيخ عبد الرحمن الجيلالي بعيد ميلاده المائة، ساعتها نشر الروائي الطاهر وطار شهادة بشأنه بعنوان ''الشيخ عبد الرحمان الجيلالي·· مائة سنة وما زالت البركة''، ولم تمض سنتان على ذلك حتى رحل صاحب الشهادة ورحل بعدها الذي كتب عنه.

الخير شوار
كانت سنة 2010، سنة الرحيل، رحيل الكبار، بدءا بعبد الله شريّط، مرورا بالطاهر وطار ومحمد أركون، وليس انتهاء عند الشيخ عبد الرحمن الجيلالي الذي لن نراه بعد الآن ليلة الشك عند حلول رمضان أو عيد الفطر، وهو الذي كان صوته المميز يحيل إلى برنامجه الديني الأشهر ''رأي الدين في أسئلة المستمعين''، وبرنامجه الثقافي التاريخي الآخر ''لكل سؤال جواب'' يعدها مع الأساتذة عثمان بوقطاية، أحمد مكحل ومحمد الأخضر السائحي· وقد بدأ رحلته الإذاعية تلك سنة 1940 ولم تتوقف إلا عند منتصف ثمانينات القرن الماضي، عندما غادر مبنى الإذاعة قسرا وهو الذي كان يؤمن تمام الإيمان بأن ''الأخلاق تبنى بالتهذيب والإحسان''، وبدأ صوت العقل يختفي شيئا فشيئا لصالح أصوات أخرى عصفت بالخصوصية الجزائرية وأتت على عشرات الآلاف من الضحايا بعد ذلك في أقل من عشر سنوات·
لقد كان الشيخ عبد الرحمن الجيلالي من المثقفين الموسوعيين، وترك بصماته واضحة في 14 طبعة من ملتقيات الفكر الإسلامي، والأعمال المنشورة لسلسلة الملتقيات تلك شاهدة على مروره المؤّثر فيها، بحثا ونقاشا في مختلف المسائل الحضارية الكبرى·
وكان قبلها قد أنجز عمله المرجعي الكبير ''تاريخ الجزائر العام'' في مجلدين كبيرين وطبع بعد ذلك ثماني مرات في أربعة أجزاء وفي طبعات جديدة بخمسة أجزاء، وكان قد صدر لأول مرة في طبعة مصورة وأنيقة في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وكان قد بدأ الاشتغال عليه سنوات قليلة بعد احتفال السلطات الفرنسية بالذكرى المائوية لاحتلال الجزائر، وقبل اشتغاله بذلك المرجع المهم كان قد كتب شهادته المرجعية حول صديقه وأستاذه محمد بن أبي شنب بعد وفاته مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي·
كان موسوعيا بكل المعاني الكبيرة للموسوعية، خبيرا بالموسيقى الدينية والدنيوية· فقد كان الشيخ بوقندورة مفتي المذهب المالكي بالعاصمة يعقد حلقات للذكر بمسجد ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي، تطلق عليها تسمية الحضرة أو القصادين، يقوم فيها الحاضرون بإنشاد القصائد الدينية أو ما يعرف بـ ''المديح''، وكان الشيخ عبد الرحمان الجيلالي يحضر هذه الحلقات، فتكونت لديه ملكة معرفة الأزجال والموشحات الأندلسية، حتى أصبح خبيرا فيها، رغم أنها معقدة عروضيا ولها طابعا صوفيا تتشابك فيها أصول ممازجة الألفاظ المشحونة بالشعور العاطفي والديني.
وفي مطلع السبعينيات من القرن الماضي اختار أن يحتفل بالذكرى الألف لتأسيس مدينة الجزائر بطريقته الخاصة، عندما ربط تاريخ هذه المدينة بتاريخ مدينتين أخريين، هما مليانة والمدية، فأصدر كتاب ''تاريخ المدن الثلاث''، بمساهمة الكثير من الباحثين المتخصصين، في إطار جهود وزارة الشؤون الدينية زمن الوزير الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم، وأكد أن المدن الثلاثة تأسست في وقت واحد تقريبا وعلى يد بولوكين بن زيري الصنهاجي وكان في برامجه الإذاعية ومحاضراته يشدد على أن اسم المؤسس هو بولوكين (بالقاف المصرية)، لا بـ ''الغين''، وهو الخطأ الذي ما زال شائعا لحد الآن·
الراحل الكبير ولد بالجزائر العاصمة سنة 1908 وتنقل تلميذا بين الجامع الكبير وجامع سيدي رمضان ومسجد ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي بالعاصمة، على يد شيوخ مشهود لهم، لعل أشهرهم عبد الحليم بن سماية الذي كان من مستقبلي الشيخ محمد عبده عند زياراته للجزائر سنة 1903 والدكتور محمد بن أبي شنب الذي كان أستاذه وصديقه، وغيرهما كثير، أمثال الشيخ المولود الزريبي الأزهري الذي كان مصلحا ثائرا، وكان قد تخرج من الأزهر وعاد إلى الجزائر ليدعو إلى النهضة والإصلاح· كما درس على يد الشيخ الحفناوي صاحب (تعريف الخلف)، الذي كان من رجال الدين الرسميين ومن الصحفيين الذين عملوا في جريدة المبشر الرسمية طويلا· وكان الشيخ عبد الرحمن الجيلالي يقول ''أجمل ذكريات حياتي هي تلك الفترة التي قضيتها بالمدرسة الابتدائية القرآنية مع شيخي عبد الحليم بن سماية وشيخي محمد بن البشير البوزيدي''·
وحسب شهادة الراحل الطاهر وطار في الراحل عبد الرحمن الجيلالي، انه لما نصّب الأول مديرا عاما للإذاعة مطلع تسعينيات القرن الماضي، اقترح عليه إعادة برنامجه فوافق لكنه رفض أن توضع تحت تصرفه سيارة وفضل أن يذهب ماشيا إلى مقر الإذاعة، لكن البرنامج سرعان ما توقف فالزمن تغيّر، والبلاد كانت مقبلة بالفعل على ذلك الشلال من الدم·
لقد كان وطار يقول: ''صار صوت الشيخ عبد الرحمان جزءا من وجداننا، وصارت حصته، هي كل كتابنا المرجعي، الإمام مالك وسيدي خليل، وابن أبي زيد القيرواني·· لا أحد منا يشكك فيما أفتى به الشيخ، بل إن معلمي القرآن، ومن يمكن تسميتهم، بفقهاء الدشرة، وحفّاظ سيدي خليل، يعتمدونه اعتمادا مطلقا''، لكننا أصبحنا الآن مجبرين على الحديث عن الطاهر وطار وعبد الرحمن الجيلالي، وحتى على ذلك الزمن بصيغة الماضي الذي لن يعود.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة