التخطي إلى المحتوى الرئيسي

على خطى ألبير كامي في بلكور


غريب يدخل بيت "الغريب"

ألبير كامي

واجهة بيت كامي في بلكور بالجزائر

داخل بيت ألبير كامي
عندما رحل ألبير كامي عن عالمنا في السادسة والأربعين من عمره، لم يكن يعلم أن البيت الذي سكنه في حي بكور الشعبي سيؤرق مالكه الجديدة مصطفى، الذي لم يره مرة في حياته، لكن أشباحه تطارده مع كل زائر جديد يبحث عن ذكرى صاحب "الغريب" و"الطاعون"، وعلى خطى كامي بالقرب من قهوة السي أر بي كانت هذه الرحلة.  

روبورتاج: الخير شوار
بلكور، الحي الذي مازال يحتفظ شعبيا بتلك التسمية، رغم أنه رسميا أصبح يحمل اسم محمد بلوزداد الذي سكن الحي نفسه، بعد أن أخذ اسم الشارع الرئيسي الذي يربط ساحة أول ماي بحي العناصر، وتوفي سنة 1952 قبل تفجير الثورة التي كان واحدا من أبرز المخططين لها. ورغم حالة التصدع التي يعرفها والكثير من المباني التي تحدت الزلازل والسنين المتعاقبة مهددة بالانهيار، مازال المتقدمون في السن من أهلها يفتخرون بأنهم بناء الحي الذي انتمى إليه بشكل أو بآخر إثنين من أبرز الكتّاب في العالم، وهما ميغيل دي سرفانتس الذي اضطرته الظروف لبقاء خمس سنوات كاملة (1575- 1580)، داخل المغارة التي تحمل اسمه الآن في المنطقة التي تحمل اسم أيضا، وألبير كامي الفيلسوف الوجودي والروائي الشهير صاحب جائزة نوبل سنة 1957 الذي عاش شطرا مهما من حياته في هذا الحي الذي كان يتعايش فيه المعمرون مع السكان الأصليين وكان مهدا لنشأة الحركة الوطنية التحررية بين الحربين العالميين للقرن العشرين، وحضرت تفاصيل الحي كما رآها ساعتها في روايته غير المكتملة التي نشرت بعد موته بعنوان "الموت السعيد".

شباب زوج...  
في بلكور لا أحد تقريبا من الشباب الذين تسأله عن ألبير كامي يعرفه، وعند اليأس نسأل بعض المتقدمين في السن، وعندها يقول صاحب محل لبيع بعض لوازم الحلويات، أن مسكنه القديم كان عند "الأقواس" المقابلة ما يسمى حاليا "قهوة السي أر بي"، المزينة بألوان فريق شباب بلوزداد (شباب بلكور سابقا) الحمراء والبيضاء وشعار "شباب زوج" في إشارة للنتائج الكبيرة التي حققها فس سنين مضت عندما كان رفقاء لاعب السابق على موسى ينهون الكثير من مواجهاتهم بالفوز هدفين لصفر.
وعند الأقواس نسأل من جديد عن ألبير كامي ونتفاجأ بالإجابة السلبية قبل أن يتدخل أحد أبناء الحومة وهو سيد أحمد ليؤكد بأنه كان يسكن في بيت "عمي مصطفى" بالجوار، لكن للأسف فإن صاحب البيت غائب في ذلك اليوم، وزيادة على ذلك فهو يشكو ضيق السكن ومحرج كثيرا من الزيارات المتكررة للأجانب على وجه الخصوص لمدة قاربت العشر سنوات، ولا ذنب له إلا أنه يسكن البيت الذي أقام فيه يوما كاتبا بحجم ألبير كامي. وحتى نحظى بدخول البيت والوقوف على آثار كامي لا بد من موعد مسبق مع "عمي مصطفى". الذي سنربط معه موعدا بالفعل ونأتيه في الوقت المعلوم.

ألبير كامي وهنري تيسي
كان الوقت مساء، ورغم أن المقهى مرتبطة أساسا بشباب بلوزداد، فإن صور المنتخب الوطني تملأ الحيطان، ولا يوجد من ذكر لـ"السي أر بي" إلا تلك الصور القليلة العدد التي تعود إلى زمن كالام وعاشور ولالماس في ستينيات وسبعينات القرن الماضي عندما كان شباب بلكور يعيش عصره الذهبي، ويؤكد مسير المقهى أن كامي فعلا كان يسكن في العمارة المقابلة وكان يجلس في تلك المقهى التي كانت ملكا لأحد المعمرين لا يذكر اسمه، لكن ابن الحي سيد أحمد يؤكد عكس ذلك ويقول بأن "قهوة كامي" هي التي كانت تسمى "قهوة لابورس" وهو ما يذهب إليه "عمي محمد" الشيخ الطاعن في السن الذي كان يرتدي كوفية فلسطينية وعرّاقية تقليدية متعددة الألوان، وبصعوبة يتكلم عمي محمد الذي كان ينتظر موعدا مع طبيب أمراض القلب، أنه كان يعرف ألبير كامي من بعيد دون أن يتعمق في معرفته، ولا يذكر عنه إلا صورته وهو يخرج من الحي ليتوجه إلى مقر عمله الصحفي عند البريد المركزي، بل ويذهب عمي محمد إلى القول بأنه كان ساعتها يشتغل سائق سيارة أجرة وركب معه كامي أكثر من مرة دون أن يتكلم معه كثيرا. وبعدها ينصرف عمي محمد ذاهبا إلى الطبيب يأتي صاحب بيت "ألبير كامي" وهو عمي مصطفى.. يقترب من سن الستين، أبيض الشعر وحليق الوجه تماما وعلى جبهته أثر السجود.
بدا عمي مصطفى ساخطا على وضعه، وهو الزوالي الذي يسكن ذلك البيت الضيق ويضطر في كل مرة يأتيه فيها من يريد الحج إلى "مقام كامي" إلى إخراج أهل البيت، وكانت زوجته قد اضطرت للخروج في المرة السابقة وحدث أن أصيب رجلها بتورم، ويقول بأن الأمر بدأ منذ حوالي عشر سنوات وقبلها لم يكن أحد يفكر في زيارة كامي إلا في مناسبة واحدة وكان ذلك سنة 1969 عندما جاءت فرقة تصوير فرنسية واكترت البيت لمدة شهر ونصف الشهر تقريبا حيث صوّروا فيلم "الغريب" المأخوذ عن روايته الشهيرة.، وساعتها اضطرت العائلة للإقامة قرب البريد المركزي، ومن أبرز زوار البيت المونسنيور هنري تيسي أسقف الجزائر السابق الذي يقول بشأنه أنه "ناس ملاح" كان في كل مرة ياتي ومعه بعض الزوار الآخرين بحثا عن ذكرى ألبير كامي، ويضطر في كل مرة لاستقبال الظروف احتراما للمونسينيور. وبدا صاحب بيت ألبير كامي ممتعضا مما كتبه بعض الصحفيين الذي أكد أنه وجد "القرلوات" في سلم البيت وهو الذي يتنافى مع الحقيقة، ويقول بأنه تعب فعلا من وضعه ويقترح أن يبيع المسكن للجهات التي يهمها أمره حتى تتحول إلى متحف مقابل عائد مادي معتبر يحفظ له ماء وجهه.

"لم أر كامي مرة في حياتي لكن شبحه يطاردني"
بساطة البيت وعراقته تبدأ من المظهر الخارجي، وقبل المرور إلى الطابق الأول علينا المرور بالسلالم الاسمنتية التي يؤكد عمي مصطفى بأنها كانت خشبية مثلما هو الأمر مع سلالم الطابق العلوي، وعند المرور من هناك يعود عمي مصطفى من جديد بقوله: "واين راهم القرلوات" ويقول بأن الأمر آلمه كثيرا، لكن قد يكون غرض الصحفي من كتابة ذلك شريفا كما استدرك. وعند ذلك الموضع تتكثف أطياف ألبير كامي بقوة وتشعر بأن تلك السلالم عادت إلى عهدها (الخشبي) الأول وألبير يعود إلى بيته وهو يعيش عربته كما صورتها رواياته الشهيرة، وعند الطابق الأول نكتشف بيتا صغيرا وبسيطا هو أقرب إلى "الاستديو" الفردي منه إلى البيت العائلي. ندخل مباشرة دون المرور على رواق إلى غرفة الاستقبال التي يقترب حجمها من حجم غرفة النوم الواسعة نسبيا، وعندها نجد مائدة أكل مستديرة مع بعض الكراسي البسيطة، وخزانة أواني مصنوعة على النمط الجزائري التقليدي وجهاز كمبيوتر بسيط مع طاولته وكرسي، وقبل التصوير يقول عمي مصطفى ساخرا: "أضن أنه لا داعي لتصوير الأثاث، فهذا الأثاث لا يمت لأبي ركامي بصلة، إنه ملك لعائلتنا واقتنيناه بعد أن جئنا إلى هذا البيت"، ويؤكد بأنه قال ذلك لفرق التصوير الألمانية والفرنسية وحتى اليابانية التي زاراته في فترات مختلفة. وبدا واضحا من كلام عمي مصطفى أنه على اطلاع بسيرة ألبير كامي، ويقول بأنه لو كان موقفه من لثورة التحريرية كمثل موقف موريس أودان وجون بول سارتر وهنري مايو لكان الأمر مختلفا ولكان هذا البيت في وضع مختلف تماما، لكن الموقف الغامض لصاحب جائزة نوبل للآداب (1957) هو الذي جعل البيت على هذا النحو وأن اهتمام الفرنسيين على وجه الخصوص أكبر بكثير من اهتمام الجزائريين الرسميين على وجه الخصوص وهو الأمر الذي منع السلطات الجزائرية على مر السنين من الاهتمام بآثاره على حد قوله.
ونحن نجلس في غرفة الاستقبال البسيطة تلك كان بإمكاننا معرفة ما بداخل المطبخ الصغير في الجهة المقابلة، وبإمكاننا أيضا مشاهدة بعض البنايات القديمة من الشرفة الداخلية، أما الشرفة التي تطل على شارع محمد بلوزداد فلا يمكن رؤيتها، فقد كان الباب المؤدي إلى الغرفة الموجودة عند الشرفة مغلقا و"أهل البيت" كانوا هناك.   

هكذا سكنت بيت كامي
يؤكد عمي مصطفى أنه لم ير ألبير كامي مرة في حياته، وكان صغيرا عندما سكن البيت الذي اشتراه والده زمن الاحتلال الفرنسي للجزائر، وكان ذلك بمحض الصدفة، عندما ساقته الأقدار للمشي في جنازة بمقبرة سيدي امحمد وعند المرور من المكان وجد لافتة مكتوب عليها أن البيت في الطابق الأول والمحل في الطابق السفلي لبيع وكان البائع أحد يهود الجزائر، الذي يبدو أنه اشترى بدوره البيت من ألبير كامي، ومن ساعتها أصبح البيت ملكهم، وقبلها كان والد مصطفى الذي ينحدر من منطقة بوسعادة قد تنقل للسكن من المغرب إلى الجزائر وله بعض الإخوة المولودين في المملكة المغربية. وكان البيت مليئا بأفراد لعائلة الكبيرة قبل أن تتفرق بهم السبل ويستقل كل واحد بنفسه بعد رحيل الوالد الذي اشترى السكن من عند اليهودي، وأما المحل الذي كان موجودا بالطابق السفلي فقد انتقلت ملكيته إلى جاره "التركي" الذي اشتهر فيه ببيع اللبن والزبدة، وبعد وفاة الوالد اختلف الورثة فيما بينهم وتم غلق المحل الذي لم يفصل فيه لحد الآن وبقى مجرد ذكرى في أذهان كبار الحي.
يعود عمي مصطفى للحديث مجددا عن "الروامة" الذين يبحثون عن ذكرى كامي ويتعجب من رؤيتهم وهم يبوسون الحيطان، مستنكرا ذلك من موقفه كمسلم يحرم دينه تلك السلوكات كما يقول، لكنه يتأسف لمآل بلكور الحي الذي احتضن الحركة الوطنية والذي انتمى إليه محمد بلوزداد الذي قاد سياسيين كبار وهو شاب في بداية العشرينيات من عمره، وحسبه فإن بلكور لم يعد كما كان.

بلكور.. بين تصدع البيوت وتصدع القلوب
خارج البيت الذي يحمل ذكرى كامي، يؤكد بعض كبار السن من سكان بلكور أن التصدع لم يصب المباني العتيقة المتآكلة فقط، بل أصاب القلوب أيضا، وبلكور التي كانت تنبض بالحياة وعشقها المعمرون الفرنسيون مثلما عشقها الجزائريون زمن الاحتلال الفرنسي فقدت الكثير من أهلها الذين سكنوا بعيدا عنها، لكنها أجيالها الجديدة ورثت حب شباب بلوزداد (بلكور سابقا)، لكن الأغلبية منهم لا يعرفون ألبير كاملي لم يمر من هناك مرورا عابرا، بل شكّل بلكور وجدانه وخياله الروائي الذي أهله لنيل جائزة نوبل ولم ير لحظة استقلال البلاد فقد رحل عن عالمنا سنة 1960 في حادث سيارة مأساوي عند الضفة الشمالية من البحر المتوسط.  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة