يعود بنا الفنان الموسيقي محمد بوليفة، إلى بداياته
الفنية الأولى، ويعرج على ذكريات جمعته مع بعض أصدقائه من الأدباء مثل السعيد بوطاجين
وسليمان جوادي وعاشور فني وعبد العزيز بوباكير وغيرهم، ضمن صداقة حميمية جمعت الموسيقى
بالأدب وأنتجت تراثا جماليا مازال شاهدا على تلك الفترة التي مضت•
حاوره: الخير شوار
الجمهور العريض يتساءل عن غيابك، وقد عرفك مطربا
وملحنا في ثمانينيات القرن الماضي، ثم ملحنا بعد ذلك، خاصة مع فن الأوبرا• فهل أخذتك
إدارة معهد الموسيقى؟
لم أنقطع عن الموسيقى، رغم أني أبعدت عن الأضواء،
لأسباب موضوعية• إلا أنه وفي الثمانينيات من القرن الماضي، كان الجو مهيئا لأن أقدّم
ما قدمته، من غناء وتلحين، قبل أن يحدث ما أسميه الانحراف الذي بدأ في منتصف الثمانينيات
وبلغ مداه نهاية تلك العشرية، وبدأ الإبداع في تقلص وتراجع ملحوظ، وبدأت شيئا فشيئا
الابتعاد عن الأضواء، وطيلة الفترة السابقة كنت أنجز أعمالا، لكن لصالح جمهور ضيق ومحدود،
يتمثل في بعض النخبة من الكتّاب والفنانين والجامعين، وكنت على الأقل ألبي رغبتي في
ممارسة هذا الفن، وأنا في الأصل لم أكن أريد شهرة من وراء ذلك• إنها متعتي التي اكتشفتها
مع الموهبة وقد نميتها وصقلتها بعد ذلك بالممارسة والدراسة العلمية• فأنا لم أتبع قاعدة
''الجمهور عاوز كده'' كما يقول المصريون• ومن تعاريف الفن أنه ''يعوض الحياة'' وبإمكان
الفنان خلق عالم جديد•
وهل هذا هو سر تحولك إلى فن الأوبيرا؟
نعم• في تلك الفترة بدأت أميل إلى فن الأوبيرا،
منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي، لكني أردت أن أنجزها وفق الطريقة الأكاديمية
الحقيقية• ومع احترامي للفنانين الذين سبقوني، فإن الأوبيرا ليست إذاعة أو تلفزيونا•
الأوبيرا مرتبطة بالمسرح، ويجب أن تتوفر فيها الموسيقى والرقص والسينوغرافيا والكثير
من الشروط الأخرى من أجل نجاحها• واعتقد أننا غامرنا ونجحنا في نهاية الثمانينيات وبداية
التسعينيات مع مركز الثقافة والإعلام الذي تحول الآن إلى الديوان الوطني للثقافة والإعلام،
والحمد لله جاءت تلك التجربة، التي تعاملت من خلالها مع الكثير من الأصوات الجميلة•
أي الأصوات تفضّل من مختلف الأجيال؟
أنا شخصيا أميل إلى التعامل مع أصوات الجيل الذي
عاصرني، مثل يوسفي توفيق، جهيدة، وبارودي بن خدة• ومن جيل التسعينيات تعاملت مع نادية
بارود•
النوع الموسيقى الذي كنت تمارسه، يقال إنه كان يحظى
بـ''عناية رسمية''، لأن الدولة كان لها مشروع، لكن التحول بدأ مع نهاية الثمانينيات
عندما سحبت رعايتها المادية، وتركت سوق الموسيقى للتجارة، وهذا هو سبب عدم استمراركم؟
لا أوافق على مسألة ''الرعاية الرسمية''، ولو ذهبنا
بعيدا فإننا نقول بأن الموسيقى التجارة هي رسمية تحت غطاء آخر، فهل الرسميون لا يعلمون
بأن المستوى انحط؟ الكل صامت حول هذه المسألة، والفن موجه إلى الجمهور ولا ينبغي أن
يكون موجها إلى طبقة سياسية معينة•
أقصد أن نوع الفن الذي كنت تؤديه نخبوي ولا يصمد
في السوق الحرة؟
لنأخذ مثلا الإذاعة والتلفزيون، في السابق كانت
هذه الهيئة تسير وفق التقاليد المتعارف عليها عالميا• كانت هذه المؤسسة تمتلك أوركسترا
خاصة بها، وكان يضرب المثل بتلك الأوركسترا في الفن الرفيع• الذي كان يدخل كعازف إلى
فرقة الإذاعة والتلفزيون معناه أنه بلغ مرحلة فنية مهمة• وبعيدا عما تقول عنه ''رعاية
رسمية''، فإننا نرى أن فرقة الإذاعة والتلفزيون تم تكسيرها، بداية من فصل الإذاعة عن
التلفزيون، ولم يعد هناك خلف، ولم يعد هناك أي اهتمام للفرقة، ومع بلوغ بعض الفنانين
سن التقاعد، دخل الفرقة أناس لا علاقة لهم بالفن• التلفزيونات والإذاعات العالمية مازالت
تحتفظ بفرقها الفنية، مثلما يحدث في فرنسا وألمانيا والكثير من الدول الأخرى التي بقيت
وفية لتلك التقاليد التي تحافظ على التراث الموسيقي وتنميه• أعتقد أن الأمر يتعلق بخطأ
في التقدير، لقد تم تسليم الأمر لأناس لا يؤمنون بحرية التعبير الفني بقدر إيمانهم
بالمال وتحصيله• فعندما تذهب الآن إلى منتج خاص، يفرض عليك كتابة كلمات بطريقة معينة
وهي التي تعرفها بمصطلح ''شرابيا'' وهي كلمات بالفرنسية وبالعامية ولحن بطريقة معينة،
أما إذا أردت إنجاز فن محض ذي بعد جمالي، فإنك لن تجد من يقبل بذلك• يقولون إن الشباب
يريد كذا، فهل الكهول والشيوخ والفئات الأخرى ليس لها حق في الاستماع؟ نحن في الجزائر
''نحفروا بعضنا''، بدليل أن المنتج نفسه يتقبل أغاني ذات مستوى جيد من فنانين أجانب
بمن فيهم المشارقة• وهناك مشكلة أخرى تتمثل في أن المنتجين لا يريدون صناعة نجوم جديدة،
بل يتعاملون مع نجوم جاهزين، فلا وجود لمؤسسات إنتاج تتبنى أصوات جديدة• والفنانون
الجزائريون لو لم تتبانهم مؤسسات إنتاج أجنبية ما كان لهم أن يحققوا ما حققوه•
هل من فكرة تدعو إلى إعادة تأسيس فرقة الإذاعة والتلفزيون
وفق أسس جديدة؟
أنا الآن بعيد عن هذا الجو ولا علم لي بمثل هذه
الأفكار• أعتقد أن ماضينا فيه أشياء جميلة، فلماذا لا نحافظ على الشيء الجميل؟ عندما
كانت ''ألحان وشباب'' في صيغتها القديمة، وكان أناس يقفون عليها، وعند تتويج أي شاب
بالجائزة، كانت هناك لجان على مستوى الإذاعة والتلفزيون للنصوص والألحان، فيأخذون بيد
ذلك الشاب ويساعدوه على تسجيل أغنية وبالتالي نشهد ميلاد نجم• الآن لا وجود لمثل هذا
التقليد•
لكن برنامج ''الحان وشباب'' أعيد وفق طريقة عصرية
وبمقاييس عالمية، فلماذا كانت في طريقتها البدائية تحقق نتائج أفضل؟
أعتقد أن المشكلة تكمل في أن الجهة المنتجة للبرنامج
تنهي عملها بانتهاء الحفل الختامي، ولماذا لا تأخذ بيد الفائز الأول والثاني والثالث
على الأقل؟ أعتقد بأن المال الذي تم صرفه أثناء التحضير، يقتصد منه القليل من أجل تحضير
ألبوم واحد للفائزين الأوائل وتقوم بالإشهار الكافي له حتى تترسخ هذه الأسماء الجديدة
في الساحة الفنية•
لمن تستمع الآن من الأصوات الجديدة؟
أعتقد بأن المشكلة تكمن في تبني الأصوات الجديدة،
وأرى أن العشرة الأوائل في برنامج ألحان وشباب هم فنانون يحتاجون إلى الرعاية حتى يتكرسوا•
ومن جانب آخر فإن لدينا شباب من ذوي المواهب لكنهم لا يتحركون على عكس الشباب في الأجيال
السابقة الذين كانوا أكثر نشاطا من أجل إثبات جدارتهم وتحقيق النجاح المراد•
الفنان محمد بوليفة، هو من أكثر الموسيقيين علاقة
بالأدباء، ما سر هذه الصداقة المتعددة؟
أعتقد أن الأمر طبيعي، وبالإضافة إلى تكويني الموسيقي
فأنا مهتم بالشعر والأدب عموما، فأمر طبيعي أن تكون لي صداقات مع الشعراء والقصاصين•
هل تكتب الشعر؟
كتبت قصائد بالدارجة، لم أكتب الشعر الفصيح، الذي
حاولت فيه في البداية قبل أن أتجه إلى الموسيقى•
اشتهرت بأغنية ''ماما لابسة الزرقاطي''، كيف أعدت
الاشتغال على تلك الكلمات التراثية؟
استمعت إلى تلك الأغنية التراثية وأنا صغير، عندما
كانت ترددها أمي، وكان لحنها القديم غير اللحن الذي غنيتها به، كان جملة موسيقية بسيطة
جدا ومكررة، فأعدت الاشتغال عليها من ناحية اللحن وحتى الكلمات وأصبحت كما سمعها الجمهور
بعد ذلك•
لما أتيت إلى الجزائر العاصمة سنة ,1975 من منطقة
وادي ريغ بجامعة، فاشتغلت على هذه الأغنية في إطار الأعراس التي كانت مناسبة لكل ما
هو جديد في الموسيقى، حققت هذه الأغنية نجاحا معتبرا وعرفني الجمهور من خلالها• وكنت
حينها قد تعرفت على الشاعر سليمان جوادي الذي تربى في منطقة وادي ريغ، وكان يعرف الأغنية
من هذا المنطلق، ورغم أنه تربى في منطقتي إلا أني تعرفت عليه هنا في الجزائر العاصمة
وبالضبط في مقهى ''طنطان فيل'' التي كانت بالفعل ملتقى للفنانين• لقد أعدت تأليف الأغنية
مع جوادي كلمة بكلمة وبيتا ببيت•
على ذكر هذه الأغنية التراثية، الكثير من التراث
الجزائري بقي شفاهيا وهو في طريقه إلى الانقراض، فمن المسؤول؟
أعتقد أن المسؤولية لا يتحملها فرد واحد• لقد أديت
بعضا من هذا التراث الشعبي، لكني لم أتوقف عنده، وقد غنيت بعض القصائد الفصيحة لشعراء
معروفين• وبالعودة إلى موضوع صداقتي مع الأدباء فإني أراها طبيعية لأن الموسيقيين يرتبطون
بالجانب التقني، ورأيت من الضروري أن أتغذى روحيا من الوسط الجامعي والوسط الأدبي•
اشتهرت ضمن شلة ضمت الكثير من الأدباء مثل السعيد
بوطاجين وسليمان جوادي وعاشور فني وغيرهم، كيف تشكلت تلك الشلة؟
ضمت تلك الشلة أيضا عبد العزيز بوباكير وعمار مرياش
ولخضر فلوس وغيرهم• كنت حينها قد أنهيت الخدمة الوطنية، ورغم أني باشرت عملي كأستاذ
موسيقى في معهد برج الكيفان، إلا أني وجدت نفسي ضمن تلك المجموعة التي ضمت أيضا الدكتور
أحمد لمين والدكتور محمد حسين الأعرجي والسوداني جيلي عبد الرحمن رحمهم الله، وكنا
نلتقي في بيتي الذي سميناها ''نادي'' واختزلنا الزمن في ذلك الوقت، كنا أحيانا نختزل
زمن شهرين أو ثلاثة في يومين أو أكثر قليلا، ونقضي الوقت مع بعض، هذا يكتب شعرا وذاك
قصة وذاك نكتة، وكنا نشاكس بعضنا بعضا•
كان هناك جو فني، لم يكن مقتصرا على الغناء فقط•
لقد استفدت كثيرا من تلك الشلة، لأني واصلت دراستي في الموسيقى•
من من أصدقاء تلك المرحلة الذي بقيت تربطه بك علاقة
لحد الآن؟
لقد بقينا أصدقاء رغم مرور السنين، لكن تفرقت بنا
السبل والمصائر ولم نعد نلتقي كثيرا• كنا شبابا أعزب حينها• أعتقد أن ذلك الممر كان
جميلا، لم يكن ضروريا لكنه أفادنا كثيرا وبقيت منه ذكريات جميلة لا تنسى• وبالموازاة
مع المدرسة العادية، كانت تلك التجارب بمثابة مدرسة أخرى• والحياة في النهاية هي دروب
نسير فيه وتشكّل ذكرياتنا ووعينا•
على ذكر دروب الحياة، ماذا عن ''درب العراق'' أقصد
فترة إقامتك هناك؟
كان ذلك في الفترة الممتدة بين 1978 و.1982 كانت
هناك بعثات علمية، وتم اختياري من معهد برج الكيفان لأتلقى تكوينا موسيقيا في العراق•
استفدت من تلك التجربة على عدة مستويات، من ناحية التكوين الاكاديمي أولا ثم من ناحية
الاحتكاك بأهل الاختصاص ثانيا• واستفدت هناك كثيرا في الجانب التقني، وهناك عرفت ما
يسمى بالمقام العراقي، والكثير لا يعرف ما معنى المقام العراقي• هذا المقام هو من التراث
العباسي، وهو بمثابة الموسيقى الاندلسية عندنا، وهو نوع من الموسيقى قائم بحد ذاته•
وليس مجرد سلم موسيقي كما يتبادر إلى الذهن، والقليل فقط من الأصوات المتمكنة من يستطيع
تأديته وليس في متناول الكثير من الأصوات الخفيفة•
وكيف استفدت من معرفة المقام العراقي في إطار الأعمال
التي أنجزتها بعد ذلك؟
المقام العراقي فيه خليط بين الفصحى والدارجة، ويؤدى
بطريقة عراقية محضة حتى في الجانب الصوتي• المقام العراقي أعرفه كقواعد وأستطيع عزفه،
ولكني لا أؤديه• وأذكر حينها أني أخذت شريط كاسيت عليه موسيقى أندلسية وقارئ له ، وقلت
لهم تعالوا لأسمعكم تراثا جزائريا• وأسمعت للأستاذ العراقي ما غناه الفنان دحمان بن
عاشور• وعندما سمع، قلت له أن ذلك هو تراث جزائري، وأن فيه نبض زرياب الذي عاش في الأندلس،
فقال لي إن ذلك صعب، وحينها أجبت بأن المقام العراقي أيضا صعب عليّ من ناحية الأداء•
قلت له: أنت كموسيقي يمكن لك عزف الأندلسي عندما نكتبه لك، لكنك لا تستطيع غناءه•
عدت من العراق، وبدأت مرحلة أخرى• وعودة إلى ''الشلة''
التي تكلمنا عنها سابقا، ماهي النصوص الأدبية التي كتبها أصدقاؤك حينها وبقيت تتذكرها
إلى الآن؟
بالإضافة إلى أشعار سليمان جوادي التي غنيتها والتي
لم أغنها، اذكر أن مجموعة ''ما حدث لي غدا'' للسعيد بوطاجين، كنت شاهدا على كتابتها
وكنت حاضرا في بعض تفاصليها وكان يناقشني في بعض مضامينها•
تعليقات