لم تكن سنة 2011
مجرد سنة ستنقضي، بل كانت بداية لمرحلة جديدة بدأت ملامحها الكبرى تتشكل، بدأت تصنع
رموزها الثقافية في ظل سقوط الكثير من ممثلي النخبة الرسمية القديمة وصدمة بعضهم وقد
تعالوا بمنطق رد الفعل المتشنج.
محمد البوعزيزي |
الخير شوار
إذا كانت سنة
2011 التي تتأهب للرحيل إلى غير رجعة، سنة بدايات مفتوحة لتغيرات جذرية إقليمية ومحلية،
فقد كانت السنة التي سبقتها (2010) للنهايات الكبرى، نهايات مفجعة لمشاريع فكرية وتصورات
للتغيير، بل نهاية لجيل من كبار المفكرين التنويريين، ممثلة في الجزائري محمد أركون،
الباحث البارز في ''الإسلاميات التطبيقية'' وصاحب مصطلحات من قبيل ''اللا مفكر فيه''
و''المستحيل التفكير فيه''، والمصري نصر حامد أبو زيد الذي قاد معارك فكرية كبيرة وانتهى
بشكل مفاجئ وهو في أوج عطائه الفكري، والمغربي محمد عابد الجابري الذي كان أحد أبرز
ممثلي العقلانية العربية في العصر الجديد وبعصامية نادرة شق طريقه نحو المشروع الفكري
الذي اشتغل عليه وترك تراثا مرجعيا وغادرنا في سن الخامسة والسبعين بشكل مفاجئ في بيته،
ورحل الكثير من رموز الثقافة والفكر من أصحاب الأسئلة الكبرى، إلى درجة خشي بعضنا من
أن تنقضي تلك السنة لندخل السنة التي بعدها (2011) بدون فكر ولا مفكرين·
لقد كانت 2010 سنة
النهايات، نهاية جيل من أصحاب تلك النوعية من الأسئلة، ومع بداية السنة التي تلتها
توفي شخص لم يكن يعرفه إلا القليل جدا من الناس، شخص عشريني العمر لم يكن له أي ميول
فلسفية من قبيل تلك التي حملها راحلو 2010 من كبار المفكرين، لكنه أحدث زلزلا في العالم
العربي المعاصر، كما لم تحدث في تاريخه الطويل، إنه التونسي محمد البوعزيزي الذي أشعل
النار في جسده يوم السابع عشر من شهر ديسمبر 2010, ليلفظ أنفاسه في اليوم الرابع من
شهر جانفي 2011. ولئن كانت موتات كبار المفكرين الموسوعيين، هي نهايات بكل المقاييس
فإن موتة الفتى البوعزيزي كانت بداية وأي بداية، وقد أحالت إلى بدايات متعددة حد الازدحام
والذي كان صاحب أسئلة ''صغرى'' لا تتعدى الترخيص له ببيع الخضر والفواكه·
نحن هنا بصدد نهايات
وبدايات كبرى، نهايات أصحاب الأسئلة الكبرى من المثقفين الموسوعيين وبدايات أصحاب أسئلة
يومية صغرى من الناس العاديين الذين أصبحوا يملأون الدنيا قولا وفعلا من خلال الوسائط
التكنولوجية الحديثة، حيث تمكن الكثير منهم من سحب البساط من تحت ''المثقفين التقليديين''
(ما أحوجنا لمراجعة أفكار أنطونيو غرامشي في هذا الصدد)، وصنعوا بدايات مرحلة أخرى
من تاريخ المنطقة وربما من تاريخ البشرية·
وائل غنيم |
لقد عاش ممثلو التنوير
العربي وأبرز رموزه في النصف الثاني من القرن العشرين والعشرية الأولى من القرن يحلمون
بالتغيير الذي لم تحققه (للأسف) كتاباتهم (بشكل مباشر على الأقل)، وكان غياب الكثير
منهم في سنة واحدة إيذانا بتغيير كبير تموت من خلاله يوتوبيا التنوير في طبعته العربية
في ظل التنامي الكبير للحركات الدينية التي تعادي أصحاب هذا التفكير، لكن بداية التغيير
جاءت بفعل وبشكل مفاجئ وعلى يد واحد من عامة الناس لم يكن له أي شأن في حياته وكان
مهان الكرامة لا يملك إلا عربة الفواكه والخضر التي صودرت منه، ويتلقى بعدها صفعة من
شرطية، صفعة واحدة كانت كافية لإشغال نار الثورة في كل مكان، أتت لحد الآن على أبرز
النظم البوليسية القمعية ممثلا في نظام بن علي في تونس ونظام مبارك في مصر، كما تعصف
بواحدة من ''أعرق'' الدكتاتوريات في العالم العربي ممثلة في نظام البعث السوري وأنهت
يوتوبيا العقيد معمر القذافي الذي أسس لنظام عبثي ليس له مثيل في التاريخ ودمّر كل
ما له صلة بالدولة حتى يكون هو الدولة دون غيره، ودفع ثمن ذلك غاليا وقد فاجأه التغيير
من حيث لا يحتسب، وسقطت كل حساباته وقتل عند مسقط رأسه بطريقة ليست غريبة عن الأسلوب
الذي حكم به بلاده اثنين وأربعين سنة كاملة·
وإن كان هناك قائد
لهذه البدايات، فلن يكون مفكرا أو قائدا سياسيا كبيرا، بل هو المواطن البسيط الذي استعان
بالوسائط التكنولوجية الحديثة التي لم تتكيف معها أنظمة الدولة الوطنية التي بدت مربكة
ولم تستفد من أخطاء بعضها· ولعل الرمز الملهم لهذه المرحلة لسخرية الأقدار هو شاعر
كان مغلوبا على أمره ومات في سن الخامسة والعشرين قبل ما يقارب الثمانين سنة، أبو القاسم
الشابي صاحب القصيدة التي مطلعها ''إذا الشعب يوما أراد الحياة'' التي اشتقت منه عبارة
''الشعب يريد'' وكانت عنوانا لمرحلة بدأت ملامحها الكبرى تتشكل يوما بعد آخر، ومع الأيام
بدت الساحة شبه خالية من رموز فكرية مؤثرة وقائدة، وبالمقابل سقط الكثير من ممثلي الأنتلجنسيا
الرسمية في فخ تبرير الأنظمة البوليسية والاستبدادية من جهة وفي أحسن الأحوال كان الكثير
منهم مجبرا على السير مع الشارع كمقود لا كقائد، ووجد بعضهم على غرار السوسيولوجي السوري
برهان غليون في قلب الحدث وهو الذي يحاول استنساخ تجربة المجلس الانتقالي الليبي في
بلده سوريا ليشكل بديلا عن نظام البعث المتهم بجرائم ضد شعبه والذي مازالت تؤيده بطريقة
تبريرية دوغمائية تفتقد لقوة الإقناع الكثير من النخب الفكرية المهووسة بمنطق المؤامرة
التي لا يمكن لها أن تفكر خارج هذا الإطار· ومقابل ذلك وجدت حركات التغيير الثورية
رغم قوتها التعبوية في الشارع تفتقر لرموز فكرية وسياسية مرجعية وعندما جاءت ساعة التغيير
الحقيقية وجدت نفسها غير مهيكلة سياسيا ولم تتمكن من تحويل الفعل الثوري إلى فعل تنظيمي
سياسي وكان أكبر المستفيدين هم بعض الحركات السياسية التقليدية التي عانت كثيرا من
قمع الأنظمة السابقة، وبدا أن الأمر يحتاج إلى وقت طويل من أجل بلورة مشاريع مرجعيات
فكرية وفية لروح التغيير ومتجاوزة لتلك الأنظمة التقليدية، ومع ذلك ظهرت الكثير من
الرموز وهي أقرب إلى المشاريع القيادية منها إلى قادة حقيقيين على غرار اليمنية توكل
كرمان الفائزة بجائزة نوبل للسلام والمصري وائل غنيم الموظف في شركة غوغل بكل ما يحمله
اسم هذه الشركة من دلالات للمرحلة الفكرية
والسياسية والاجتماعية الحالية والقادمة·
برهان غليون |
لقد رحل المفكر محمد
أركون من بين الذين رحلوا من رموز الفكر التنويري العربي قبل سنة من الآن، ولو عاد
إلى الحياة من جديد، من المؤكد أنه سيصدم للتغيرات الكبيرة التي حدثت في غيابه، وفي
ظرف وجيز جدا، فالذي حدث ربما يندرج ضمن ''اللامفكر فيه'' بمنظوره الشخصي وربما يندرج
ضمن ''المستحيل التفكير فيه''·
تعليقات