التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رحيل أحمد بن بلة.. صفحة تاريخية جزائرية تطوى



لقد رحل أحمد بن بلة عن عمر ناهز الستة والتسعين سنة، هذا "الرائد" الذي لم يكن يصغر ''أب الوطنية الجزائرية'' مصالي الحاج إلا بثمانية عشرة سنة، ومع ذلك امتد به العمر بعده بسنين طويلة، ليكون واحدا من أكثر الشخصيات الجزائرية شهرة عبر الزمن وإثارة للجدل، إنه أحمد بن بلة الذي يعرفه المشارقة باسم ''أحمد بن بيلا''، الذي بقي يصنع الحدث منذ حادثة ''السطو'' على بريد وهران سنة 1949 مرورا بتأسيس المنظمة الخاصة واكتشاف أمرها سنة 1950 وليس انتهاء بالانقلاب عليه كأول رئيس لجزائر الاستقلال. وقد جاء إلى السياسة بعد أن كان نجما كرويا في شبابه الأول في ثلاثينيات وبداية أربعينيات القرن الماضي·عندما تمكن العقيد هواري بومدين، يوم السبت 19 جوان 1965 من الإطاحة به ووضعه خلف الأضواء، لم يكن الأمر نهاية لأحمد بن بلة، بل كان الأمر بداية لمرحلة جديدة من مراحل هذا السياسي الذي واكب نشوء الحركة الوطنية في عهدها الأول، بقي فاعلا وشاهدا على مختلف التحولات، وهو الذي كان يستعد بعد سنوات قليلة من الآن للاحتفال بعيد ميلاده المائة وسط محبيه الكثيرين مقارنة مع خصومه وأعدائه الكثّر، كأي ظاهرة مثيرة للجدل·ولم يكن ما أقدم عليه العقيد هواري بومدين مجرد انقلاب عسكري مهما كانت خطته محكمة، بل كانت مغامرة غير مضمونة، بالنظر للشعبية الكبيرة التي كان يتمتع بها بن بلة حينها، تلك الشعبية التي يرجعها أتباعه إلى شخصيته الكاريزماتية التي صنعها على مرّ السنين، وإلى تضحياته الكبيرة وهو الذي دخل السجن أكثر من مرة قبل الثورة وأثناءها، لكن خصومه الكثيرين قالوا إن بن بلة ما هو في النهاية إلا صنيعة الإعلام ''الناصري'' (نسبة إلى الزعيم المصري جمال عبد الناصر)، إذ روجته إذاعة ''صوت العرب'' القاهرية كزعيم مفترض للثورة التحريرية التي كانت تصور حينها على أساس أنها طبعة جديدة من حركة الضباط الأحرار في 23 جويلية .1952 والأبعد من ذلك، رأى خصوم بن بلة أن انقلاب 1965 الذي سمي رسميا لسنين طويلة ''تصحيحا ثوريا'' واعتبر من الأعياد الوطنية والعطل المدفوعة الأجر، ما هو في النهاية إلا استمرارا للانقلاب على شرعية الحكومة الجزائرية المؤقتة، عندما استولى بن بلة بالتحالف مع ''جماعة وجدة'' على السلطة بالسلاح ودخلت البلاد ''حرب الولايات''، ولولا اندلاع ''حرب الرمال'' ضد المغرب سنة 1963 لسارت الأمور نحو الأسوأ، وبن بلة هو من دفع إلى فشل مؤتمر طرابلس عشية الاستقلال، وقد واجه الرئيس بن يوسف بن خدة حينها بكلام لا يليق بمقام شخص محترم·إنه أحمد بن بلة، الذي عاد مرة أخرى سنة ,1989 بعد إقرار التعددية والسماح له بتأسيس حزب سياسي يخوّل له الدخول اللعبة السياسية التي من شأنها أن تعيده إلى كرسي رئاسة الجمهورية بعد أن غادره قسرا قبل أكثر من 25 سنة من ذلك التاريخ، واستقل استقبالا شعبيا كبيرا والآلاف من أنصاره يهتفون باسمه في شوارع الجزائر العاصمة، وقد تحول حينها إلى أسطورة، وكان الحزب الذي أسسه في المنفى (الحركة من أجل الديمقراطية في الجزائر)، وكانت منشوراته ''منبر أكتوبر'' و''البديل'' و''المجاهد'' توزع سرا في الجزائر وتُقرأ على نطاق واسع وتصور في طبعات أنيقة أحمد بن بلة كزعيم انتهك حقه وسيعود إلى البلاد كمهدي منتظر ''سيملأ الدنيا عدلا بعد أن مُلئت جورا''، لكن خصومه الكثيرين كانوا يرون الأمر مجرد ''ظاهرة إعلامية'' انتقلت من مصر عبد الناصر إلى ليبيا معمر القذافي الذي تكفل به فور خروجه من الجزائر عقب وفاة العقيد هواري بومدين، وتسلم العقيد الشاذلي بن جديد مقاليد السلطة، وكان العقيد معمر القذافي الغارق في أحلام توحيد العالم العربي تحت رايته الخضراء لا يتردد في تذكير الناس بلقب ''أمين القومية العربية'' الذي أطلقه عليه جمال عبد الناصر قبيل وفاته· لقد عاد بن بلة يواجه أكبر امتحان له، امتحان شرعيته الشعبية تحت عنوانه حزبه السياسي ''الحركة من اجل الديمقراطية في الجزائر''، لكنه جاء في زمن طوفان ''الجبهة الإسلامية للإنقاذ'' ولم يفز حزبه بأي مقعد برلماني في تشريعيات ,1991 وانتهت بذلك أحلام بن بلة في الجزائر، وانتظر حزبه دستور 1996 ليُحل بطريقة آلية ولم يقدم طلبا بتجديد اعتماده وفق القوانين الجديدة· وتحولت بعد ذلك العودة إلى البلاد إلى عودة منها، ولم يتخل عنه العقيد معمر القذافي الذي أعطاه رئاسة ''جائزته لحقوق الإنسان؛، وعندما التفت العقيد إلى إفريقيا ليصبح ''ملك ملوكها''، وأصبح سنة 2007 ضمن لجنة حكماء إفريقيا للوقاية من النزاعات إلى جانب الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، لكن تلك اللجنة لم تستطع فعل أي شيء أمام الطوفان الذي أودى بنظام العقيد معمر القذافي، حيث كان بن بلة ومانديلا في آخر خريف العمر.الخير شوار

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة