التخطي إلى المحتوى الرئيسي

محمود درويش في طبعته الثالثة





عندما رحل محمود درويش قبل أربع سنوات من الآن، لم يكن هو نفسه «شاعر الثورة الفلسطينية» الذي عرف قبل أوسلو، الشاعر الذي ارتبطت إصدارته بدار العودة بمجلداتها الصغيرة الحمراء، لقد انتقل قبلها سنين من «طبعة العودة» إلى طبعة «نجيب الريس»، متخليا عن يقينياته الكبرى لصالح شكه الكبير، وكان يفترض أن تقام تباينيات كبرى محمود الأول أواسط العقد الأخير من القرن العشرين

الخير شوار
مات بالفعل درويش في طبعته الأولى قبل ما يقارب العشرين سنة من الآن، وكان من تراث تلك المرحلة «مديح الظل العالي»، الذي خاطب فيه أبو عمار قائلا: «حاصر حصارك»، في زمن سفر الخروج الفلسطيني من لبنان سنة 1982،
وانبعث من «رماد أوسلو»، شاعرا مختلفا تماما عن الأول، يمكن أن نسمه «درويش الثاني» ولئن كان درويش في صيغته الأولى «شاعر اليقين»، يقين الثوار، الذين يؤجلون أي نقاش إلى غاية الانتهاء من حروبهم (التي لا تنتهي)، فإن درويش في طبعته الثانية التي مرت هي الأولى بمراحل هو «شاعر الشك والحيرة»، وهل من الصدفة أن يغيّر درويش ناشره من «دار العودة» بخطها الملتزم، إلى «دار نجيب الريس» بخطها الليبرالي المنفتح على ثقافات متعددة؟ وهل من الصدفة أن تكون آخر قصائد الراحل محمود درويش بعنوان «لاعب النرد» الذي لا يعتمد إلا على الحظ و«الأمل الرياضي» بلغة الاحتمالات الرياضية؟
ولم يكن أمر الولادة الثانية لمحمود درويش سهلا، لقد كان يمكن أن يبقى عند أطلال التجربة الأولى، يعيد اجترارها كأي شاعر عربي مكرر، لكنه اختار طريق الشك، الذي ولد تلك التجربة الإنسانية العميقة التي توجت بمجمل أعماله التي صدرت عن دار نجيب الريس» قبل أن يموت، و«العاشق الفلسطيني» انتهى أخيرا «لاعب نرد»، سالكا طريقا وعرا رثى فيه نفسه في جداريته الشهيرة التي جاءت في منتصف طريقه الثاني.
والآن ونحن على مسافة من درويش في صيغته الاولى، ودرويش في صيغته الثاني، يمكن أن نتلمس ميلاد «درويش في طبعته الثالثة»، الشاعر الذي بدأت نصوصه تنفصل شيئا فشيئا عن «دفتر أعباء السياسة» بكل ما لها وما عليها، لصالح الشعرية الخالصة، ويبدو أن درويش من طينة كبار شعراء الإنسانية، بدليل أن نصه بذا كالمعادن النفيسة التي كلما تقادم بها العهد كلما زاد لمعانها، وما تزال الصورة تتضح شيئا فشيئا ليكتمل ميلاد «درويش الثالث»


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة