عندما تسافر إلى أريس في قلب الأوراس، فأنت تتوغل في التاريخ كما تتوغل في الجغرافيا
الصعبة، وتلك البلدة الطيبة التي تزينها أشجار التفاح تحيط بها الجبال من كل جانب،
هي لحظة الفاتح من نوفمبر 1954 الذي تقرأه في رؤوس الجبال البيضاء من قوة الثلج، وربما
لهذا السبب سميت ''الأرض البيضاء'' وهي الترجمة الأمازيغية المحلية لكلمة ''أريس''،
ومن شير وثنية العابد تنطلق عبر طريق جبلي كان سكان تلك المناطق يداومون على السير
فيها نحو مقر دائرتهم الإدارية هناك قبل التقسيم الإداري الأخير·
الخير شوار
السير في ذلك الطريق الجبلي الوعر يعطيك فرصة لتوديع ثنية العابد وشير بطريقة
خاصة، ففي قمة الطريق بإمكانك الالتفات إلى الوراء لتمسح تلك المناطق في مشهد بانورامي
يختصر كل تلك التفاصيل التي عشتها هناك، وشيئا فشيئا تختفي ملامح تلك البلدة وأنت تغوص
في تضاريس الأوراس الصعبة، وتدرك درجة برودة الخارج عندما تجد علامة مكتوب عليها أنك
على ارتفاع 1740 متر على سطح الأرض، وعندما تنزل من السيارة تجد فعلا أن برودة الطقس
لا تطاق، حيث تلك القمم مكللة بكتل ثلجية ناصعة البياض، وفجأة تتجلى مدينة أريس من
بعيد أسفل تلك القمم المتقابلة من الجبال، وأول طيف يمكن أن يخطر على البال هو طيف
مصطفى بن بولعيد الذي يسمونه هناك ''سي مصطفى'' (بتسكين الصاد) كأنه ما زال يعيش لحد
الآن ولم يُغتل في حادثة المذياع الملغم الشهيرة غير بعيد عن أريس في البلدة المسماة
تاغيت، وقبل الدخول إلى أريس المدينة كانت عجوز بملابسها البربرية العتيقة وبأوشامها
التي تخيلتها من بعيدة تحاول تسلق هضبة غير بعيد عن الطريق الإسفلتي وبالكاد تقوى على
ذلك·
وعند الاقتراب من المدينة مترا بعد آخر كنت أفكر في شخصين لا ثالث لهما، الشهيد
مصطفى بن بولعيد الذي يشهد كل شبر من تلك الأرض على مسيرته النادرة، والصديقة الروائية
فضيلة الفاروق ابنة تلك المدينة التي غادرتها نحو بيروت، وهي من عائلة ملكمي العريقة
في المنطقة وكان بعض أفرادها من الرعيل الأول للثورة ومن رفقاء ''سي مصطفى'' نفسه·
من 1954 إلى 1994
مدينة أريس تستقبلك بتمثال مصطفى بن بولعيد الذي ما زالت الأشغال جارية على
محيطه، وهناك صادفت أطفال المدارس يصنعون زحمة الطرقات منتصف النهار يتكلمون لغة شاوية
لا أفهمها، يقول صديقي إن تلك اللغة تختلف عن شاوية المناطق الأخرى وسكان أريس وما
جاورها يسمونهم ''الجبايلية'' (نسبة إلى تلك الجبال التي أسسوا مدينتهم عندها)، ولم
نمكث طويلا في وسط المدينة لنتجه صوب طريق تكوت عند النقطة التي شهدت أول عملية عسكرية
صبيحة الإثنين الفاتح من نوفمبر ,1954 وتحولت في العشرية الماضية إلى مأوى للجماعات
المسلحة وكانت تفرض منطقها على العابرين من هناك قبل أن يتراجع خطرها شيئا فشيئا بداية
من سنة ,1997 وفي الطريق إلى هناك تخرج من بلدية أريس إلى بلدية تيغانمين إلى أن تجد
مغارة صغيرة تشير إلى حدود تلك المدينة، حيث يبدأ محيط تكوت، وعند النصب التذكاري المخلد
لأول عملية عسكرية قام بها جيش التحرير الوطني صبيحة الفاتح من نوفمبر، يبدأ (ر· م)
وهو من مجاهدي ثورة التحرير التي التحق بها وعمره آنذاك 16 سنة يسرد وقائع الثورة من
خلال شخصية ''سي مصطفى'' الذي كان قد عرفه لأول مرة في مدينة أريس وهو طفل في السادسة
من عمره عندما ترشح لانتخابات 1948 التي ترشح لها بن بولعيد وحرم من الفوز نتيجة التزوير
الشامل الذي مارسته إدارة الاحتلال، ومن ساعتها بدأ في التفكير الجدي لإطلاق الثورة
التحريرية، وقد كان يملك في ذلك الوقت حافلات وشاحنات و''أرستقراطيا'' مقارنة مع عموم
الجزائريين المحرومين، ولم يمنعه ذلك من النضال السياسي والميداني العسكري إلى أن سقط
شهيدا عند منطقة تاغيت قرب أريس، وعمد رفقاء سلاحه إلى دفنه وزرع أشجار الصبار عند
قبره حتى لا تتمكن قوات الاحتلال من اكتشافة، ثم يغوص في تفاصيل تاريخية معروفة في
كتب التاريخ، لكنه يقرأها عليه ويشير عند كل حادثة إلى جهة في الجبل غير بعيد هناك
كأنك تعيشها معه في تلك اللحظة، ويذهب بعيدا إلى تونس وليبيا عند التحضير للثورة التحريرية
سنة 1952 وعمليات شراء السلاح التي كانت تدخل وتخزن في أريس استعدادا للحظة نوفمبر
الموعودة، وبشخصيته المرحة يحكي (ر· م) عن المناضلين الأوائل الذين ذهبوا إلى تونس
من أجل نقل السلاح، وخافوا من ركوب البحر وهم الذين قضوا كل حياتهم وسط الجبال ولم
يروا سفينة قبل ذلك التاريخ، وكاد بعضهم يموت من شدة الخوف في تلك اللحظة، وكيف ساعدت
ليبيا الملك إدريس السنوسي على انتقال تلك الأسلحة نحو الجزائر· وعند النقطة الحدودية
بين بلديتي تيغانمين و''تكوت'' في المكان المسمى ''تاغيت''، وبعد الخروج من النفق الصغير
ذلك، وعند النصب التذكاري يعيد (ر· م) رسم ما حدث يوم الفاتح من نوفمبر ,1954 عندما
أوقف مجاهدو جيش التحرير حافلة وقتلوا ''قائد'' وأحد المعمرين وتم جرح امرأة من الراكبين،
وفي الحقيقة لم يكن أحدهم ينوي قتل ''القايد'' ولا حتى المعمر وإنما القايد هو من بادر
بإخراج سلاحه وعندها وقع عراك انتهى بتلك الحصيلة، ثم أنهم لم يكونوا على علم مسبق
بوجود ''قايد'' على متن تلك الحافلة المتنقلة بين تكوت وأريس·· ولم نتمكن من زيارة
''مقام بن بولعيد'' في قمة الجبل هناك للتضاريس الوعرة وبرودة الطقس، لكن (ب· ر) الذي
يمعن في وصف تفاصيل تلك الشخصية الأسطورية ولحظة الموت بانفجار المذياع الملغم التي
يؤكد بأنها لا تتعلق بخيانة داخلية، بقدر ما تتعلق بتمكن جيش الاحتلال من تنفيذ مخطط
جهنمي، ويقول بأن الأقدار وحدها هي التي دفعت ''سي مصطفى'' إلى حتفه وهو الذي توجس
من المذياع وكان بعيدا في غرفة مجاورة، وعندما جاء يطلب كسرة كان يطبخها بعض الرفاق
وأمر بإبعاد المذياع الذي أثار ريبته، انفجر بالفعل وأصاب جذع الشجرة الذي كان في السقف،
ولما انهار السقف سقط عليه وأرداه شهيدا رفقة بعض رفاقه وهو الذي تمكن بأعجوبة من الهروب
من سجن الكدية بقسنطينة في ظروف مستحيلة، ويؤكد بأن الجميع يحترمه ويقدسه، وحتى الجماعات
المسلحة في فترة نفوذها احترمت مقامه ولم تهدمه، لكنهم هدموه بالفعل عند القضاء على
أحد قادتهم المسمى يوسف مقراني وحينها راحوا ينتقمون من ذلك المقام الرمزي لبن بولعيد·
الوقود عند ليلة نوفمبر
وشيئا فشيئا كنا ندخل أريس من جديد في أمسية باردة، لكننا كنا بصدد الذهاب إلى
لحظة ميلاد نوفمبر على طريق إشمول عن المكان المسمى دشرة أولاد موسى في هضبة بإمكان
الواقف عندها مراقبة كل الجهات، ففي ذلك المكان اجتمع ''سي مصطفى'' ليلة الفاتح من
نوفمبر 1954 الموافق لـ 6 ربيع الأول 1374 للهجرة، بقادة الأفواج ووزع عليهم السلاح
لحظة بداية ثورة نوفمبر والقادة الذين حضروا ليلتها هم بشير شيحاني، عباس لغرور، مدور
عزوي، عاجل عجول، ومصطفى بوستة، وكانت لحظة الميلاد تلك في كوخ كان بمثابة مكتب ''سي
مصطفى'' الذي ما زالت أسطورته تصنع يوميات المنطقة إلى يومنا هذا.
عود على بدء
عند ذلك الكوخ الذي ولدت فيه لحظة نوفمبر، تتساءل عن شخصية ''سي مصطفى'' الذي
عاد ليملأ صفحات محرك البحث غوغل، لا من خلال تفاصيل حياته الخاصة، وإنما من خلال الفيلم
الجديد الذي أنجز حوله وهو من إخراج أحمد راشدي وكتابة الصادق بخوش، وتقارن بين المنزل
الأنيق الذي كان يمتلكه وسط مدينة أريس وذلك الكوخ الذي اختاره بمحض إرادته من أجل
تحويل مجرى التاريخ، وعند العودة إلى أريس كان لا بد من زيارة ذلك البيت الأنيق الذي
ما زال شاهدا على ميلاد تلك الأسطورة، وأريس التي كانت مسرحا لتلك الأسطورة تعيش يومياتها
والتلاميذ يروحون ويجيئون إلى مدارسهم وثانوياتهم وهم يمرون على ذلك التمثال.
تنويه: أنجز هذا الروبورتاج في شتاء 2009
تعليقات