الحبيب السائح، لا
يكتب مجرد حكاية جديدة مع كل إصدار جديد، بل ينحت عالما جديدا بعوالمه وحتى بلغته.
هو لا يستعمل اللغة نفسها بل يعمد في كل مرة إلى إعادة اختراعها، كأنه «يعرب بن قحطان»
يخرج من كل مرة من برج بابل لينحت «لغاته» التي لا تكاد تنتهي، ومنها لغة «الموت في
وهران» الصادرة حديثا عن «دار العين للنشر» بالقاهرة.
الخير شوار
هو الثراء اللغوي
الذي ينطلق –ربما- من هاجس يقول إن «رصيدنا اللغوي منهوب تاريخيا»، ويضيف: « إن رهاني
ظل ولا يزال قائما على حدّ اللغة في أبعادها القاموسية والنحوية والصرفية والمجازية.
فإني لست منشغلا كثيرا بالسيطرة على الموضوع ولا بإتقان الحبكة (وأنا، للتذكير، لست
كاتب حبكة) قدْرَ انشغالي بالقاموس الذي يجب أن يسمي لي الأشياء ـ كل الأشياء ـ وتفاصيلها
التي تواجهني لحظة الكتابة لتجسيد مشهد ما. هنا مشقة الكتابة بالعربية في الجزائر.
لا شيء تقريبا يأتيني ـ أو يأتيك ـ إلا بعد ترجمته من لغة الأم أو من لغة أخرى أجنبية؛
لأن رصيدنا اللغوي منهوب تاريخيا وهو الآن يواجه مزاحمة شرسة جدا. أؤكد لك أننا لا
نكتب في الجزائر إلا عبر الترجمة؛ عكس أشقائنا في المشرق الذين يكادون يكتبون كما يتكلمون،
كما يعيشون! من هنا قد تبدو لغتنا العربية مغايرة».
هو كاتب لغة كما
يقول، لكنه أيضا كاتب مدن كما لم يقل صراحة، ومن مدينة سْعيدة ابتدأت تجربته الروائية
«العريضة» بعد مجموعات قصصية نشرها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ولم تكن البداية
سهلة، بل كادت تتسبب في وتوقف مشروعه الروائي، وبلغة حادة كتب «زمن النمرود» التي رأى
فيها بعض المسؤولين نفسه فـ «سحبت الرواية
من المكتبات ومنعت من التداول وطحن ما كان بقي منها في المخزن الرئيسي للمؤسسة الوطنية
للكتاب. ذلك، لكونها تجرأت على قول المسكوت عنها بلغة نيئة، كما كان لا بد أن تسمى
بها الأشياء».
وكم كان صعبا أن
يعود الحبيب السايح إلى البداية من جديد، حيث الولادة القيصري مرة أخرى كانت مدينة
سعيدة بأمكاكنها حاضرة بقوة في «ذاك الحنين» لكن بلغة مختلفة تماما تحكي جدل تقويمين
(قمري وشمسي) في مدينة بائسة استباحها ريح القبلي حتى كاد يقضي عليها. وتوالت التجارب
بعد ذلك بلغات أخرى وفي مدن أخرى لعل أشهرها أدرار التي منحته الدفء ومنها «تلك المحبة»
و«تماسخت»، وصولا إلى تجربته الجديدة «الموت في وهران» وهي أولى رواياته بعد هذه التجربة
الطويلة تصدر خارج الجزائر (صدرت عن دار العين للنشر بالقاهرة). وهي وهران التي أعادته
إلى الشمال من جديد، هي المدينة الطافحة بالحياة والانطلاق التي ربط اسمها في هذا المتن
الجديد (ويا للمفارقة) بالموت، ويقول بصددها: «الآن، لا أدري بالتحديد لِمَ انتهى خياري
إلى هذا العنوان. أنت تعرف زحمة العناوين على باب نصك الجديد. كما أنت تعرف أني، وأنا
طفل صغير، خلال حرب التحرير، أقمت مع عائلتي المطارَدة من قبل الاستخبارات الفرنسية
في ثلاثة أحياء من مدينة وهران. ودرست لاحقا في جامعتها. وبرغم كوني لا أقيم فيها بشكل
دائم فإن صلتي بها ظلت دائمة. لذلك كلما عدت إليها، عديد المرات في السنة لأخلو للكتابة
خاصة، وجدتها فقدت مزيدا من بهائها الذي سحرتني به، مثل غيري. بهاء مدينة متوسطية كانت
حاضنة ودافئة وخالبة بأزقة وسطها وواجهاتها ومقاهيها ومقشداتها وحاناتها ومطاعمها وقاعاتها
السينمائية ومكتباتها وصالونات حلاقتها وباعة الورود في ساحاتها الضيقة وأسواقها ورجالها
المتحضرين ونسائها السمراوات المتأنقات .. كل شيء في وهران كان يضج بالحياة! هذا، إضافة
إلى طبيعة الموت الآخر: إنها إعصار المحنة الوطنية التي ضربت وهران في صميم قلبها؛
إذ فقدت غدراً خيرة مثقفيها وفنانيها. أو هي رأت غيرهم من الباقين يهجرونها». وهو المتن الذي اختلط فيه – ربما- ماهو متخيل بما
هو نوستالجي وفي هذا يؤكد: «تذكاراتي كانت أقوى اجتياحا، حقا! لذلك كان علي أن أختار
ما سيكون أشد ألما: إعادة بناء حماقة الإنسان وعبثية مصيره. وحينها، لم يعد لي، أمام
ذلك، سوى الخيال. إنه القادر وحده على إعادة بعث ما يموت. سوى اللغة الشاهدة على ما
هو زائل. غير أن أوار الحنين إلى زمن وهران السبعيني خاصة ظل مهيمنا على مشاعري. وتخفيفا
من سطوته، كان لا بد من «بعثرته» على بعض شخوص النص. كان ذلك من ضرورات الدرامية التي
يستدعيها الموضوع».
تعليقات