ناصر جابي |
هذا الحوار أجري قبل
سنة، بعد نجاح الثورة التونسية في إجبار الجنرال بن علي على الهروب، وبعد ما سميت
إعلاميا في الجزائر "ثورة الزيت". إنها وثيقة تاريخية مهمة من أجل فتح
نقاشات أكثر عمق تخص النخبة وصناعة التغيير.
يرى عبد الناصر جابي، أستاذ علم الاجتماع السياسي
في جامعة الجزائر أن ''القطاعية'' ساهمت بشكل كبير في انعدام الفاعلية لدى النخبة المثقفة
الجزائرية، التي منعتها كذلك مشاكلها الاقتصادية من أن تستسلم لإغراءات السلطة الغنية.
ويرى أن التاريخ الجزائري تميز في فترات مفصلية بعملية إفراغ للمجتمع من نخبه، ويرى
أن النخبة الجزائرية ''من أكثر النخب انتهازية'' في العالم.
مع أحداث الاحتجاجات الأخيرة، ومن خلال النقاشات
على صفحات ''الفيسبوك''، يتساءل الناس عن استقالة المثقف من الشأن العام. وقبل هذا
ومع أحداث أكتوبر 1988 كان الأمر يتعلق بتمادي المثقف في الأيديولوجيا، كيف حدث هذا
التحول؟
ينبغي أن نحدد المصطلح ونحدد من هو المثقف؟ هل هو
المتعلم؟ إذا قلنا إن المثقف هو المتعلم، ففي هذه الحالة فإن عدد المثقفين كبير جدا.
وهذا غير صحيح، ففي كل المجتمعات ليس المتعلم بالضرورة مثقفا. المتعلمون لهم أدوار
أخرى وقد شهدنا في تونس مثلا إن تحسين مستوى التعليم يمكن أن يؤثر، لكن ليس بشكل مباشر.
وبعيدا عن ثنائية المثقف والمتعلم، فإن المثقف هو صاحب الرأي الذي يهتم بالشأن العام
وليس بالضرورة صاحب إيديولوجيا، وأعتقد أن أصحاب الإيديولوجيا انتهوا. شهدنا في الحركات
الاحتجاجية، المثقف الإسلامي والمثقف اليساري بهذا المعنى لم يكن لهم حضور في هذه الحركة.
والحديث عن المثقفين في الجزائر لا بد أن يقودنا إلى التاريخ، ولنقارن مع ما حدث في
تونس..
من منطلق أن الفضاء واحد؟
ليس واحدا، حتى تونس ليست واحدة. في تونس هناك
''الساحلية'' في الشمال الذين عبّروا عن أنفسهم تقليديا من خلال الحزب الدستوري، أما
أهل الجنوب والغرب فقد عبّروا عن أنفسهم تقليديا من خلال النقابات. فإذا رجعنا حتى
الخمسينيات من القرن الماضي في تاريخ الحركة الوطنية التونسية هناك شكلان للتعبير.
أحيانا أتكلم حميميا مع التوانسة عن أهل الجنوب والغرب، يقولون إن أخوالهم الجزائريون،
فهم قريبون من الثقافة السياسية الجزائرية، فهم الذين تبنوا دوما الحركات الاحتجاجية
النقابية والشعبية. ويكفي تدليلا على ذلك أن كل القيادات النقابية في تاريخ تونس منحدرة
من تلك المنطقة. وهناك نوع من التصادم بين الجنوب الذي يعبّر عن نفسه من خلال الحركة
المطلبية والأقرب إلى الفكر العروبي والشمال الذي يعبر من خلال الحركات السياسية، فقد
حدث نوع من الصدام بين الجنوب القريب من الناصرية أحيانا وكانوا ''فلاة'' وكلمة ''فلاة''
هي تونسية بين الشمال الأقرب إلى الفكر العصري.
وماذا عن دور المثقف في الحركات المطلبية والسياسية
في تاريخ الجزائر؟
تاريخيا، كان دور المثقف في الجزائر ضعيف جدا. ففي
تاريخ الحركة الوطنية، كل الأحزاب ضمت مثقفين كان دورها ضعيف، مثل جمعية العلماء والحزب
الشيوعي وحزب فرحات عباس. ومن الذي استطاع أن يسيطر ويفرض نفسه؟ هي الأحزاب التي كانت
أكثر شعبية وكان دور المثقف فيها ضعيف جدا بل ومنعدم في الكثير من المراحل. نحن أبناء
حركات شعبية، أبناء الفعل المباشر، أبناء الحركات الاحتجاجية، أبناء هذه الجذرية. لو
نسأل: ما هي خصائص الثقافة السياسية في الجزائر؟ هي الجذرية (الراديكالية) والمساواتية.
وإذا قلنا أن هاتين الفكرتين هي ما تختص به الثقافة السياسية في الجزائر، فمن الصعب
أن تسيّر مجتمعا تسيطر عليه هاتين الفكرتين. وبالتالي إذا شاهدنا كل حركات التاريخ
السياسي في الجزائر، هناك مثلا كتاب روني غاليسو قدّم فيه الشخصيات السياسية في تاريخ
الجزائر، وهناك كتاب لعاشور شرفي في هذا السياق، ومن خلال الكتابين يمكن أن نقرأ سير
الفاعلين السياسيين في الجزائر ونجد أن مستوياتهم الثقافية بسيطة جدا، وأن المثقفين
وأصحاب الشهادات دورهم محدود جدا. ومن ميزات التاريخ السياسي في الجزائر ضعف دور المتعلم
والمثقف.
هل يمكن القول إن المساواتية انتصرت وانتفى بذلك
دور المثقف الذي أصبح خارج اللعبة؟
المساواتية كقيمة مركزية انتصرت بالفعل. في التاريخ
الجزائري، من يمثل المثقف والمتعلم أصبح بورجوازي وأصبحت هناك عداوة للمثقف والمتعلم،
وهذا المثقف والمتعلم أمام الثقافة المساواتية والشعبوية أصبح معاد لها، وهذا ما عبّرت
عنه الحركة الإسلامية. أصبحت هناك عداوة للتفكير وللخروج عن الجماعة. والمثقف هو الخارج
عن الجماعة. وإحدى خصائص التاريخ الاجتماعي والسياسي في الجزائر هو هذا الدور الضعيف
للمثقفين والمتعلمين وفي أحيانا معاداة لهم مثلما حدث في قضية ''لابلويت'' زمن الثورة
التحريرية ووصل الأمر إلى درجة التصفية الجسدية، وتواصلت مع الحركة الإسلامية في عنفوانها،
وأصبح كل من يقترب من الدولة وكل من يفكر خارج الجماعة معرضا للقتل. وأصبح المعلم والممرض
والصيدلي والأستاذ متهمين بالخيانة لصالح السلطة.
لو نعود إلى العشرين سنة الأخيرة، هل يمكن أن نحدد
الملامح الأساسية التي تحدد من هو المثقف اليوم؟
لو ندرسهم ككتلة اجتماعية، ربما أول شيء نعرفه،
عكس النظرة النمطية التي تقول إن المثقفين بورجوازيين. ففي تاريخ الجزائر، المدرسة
انتشرت في الأوساط الشعبية، وحتى المثقف المفرنس في الكثير من الحالات كان ابن الشعب،
المدرسة الفرنسية انتشرت في منطقة القبائل في أوساط شعبية أنتجت مثقفا مفرنسا هو ابن
الشعب. أما المثقف المعرب الذي هو ابن الزاوية في الكثير من الأحيان هو ابن الفئات
الشعبية أو الوسطى في حالات قليلة. فلا وجود للطابع الطبقي للمثقف. ولو ندخل تفاصيل
الحياة السياسية في الجزائر، نجد ما أسميه في كتاباتي ''الانقسامية''. ففي التاريخ
الثقافي الجزائري، الجزائر لم تنتج مثقفا مرجعيا واحدا. في تونس خرجت المظاهرات تحمل
شعارات من أشعار أبي القاسم الشابي (إذا الشعب يوما أراد الحياة)، هل نستطيع نحن أثناء
حركة اجتماعية الإجماع حول رمز؟ هذا غير موجود. الطاهر وطار ليس مثقفا يحظى بالإجماع
الوطني، هو مثقف قطاع أي جزء من النخب، والأمر نفسه ينطبق على محمد ديب وغيره. نحن
نعيش انقسامية رهيبة، عندنا فئات وسطى ضعيفة من ناحية الكم، وهي مقسمة على المستوى
الإيديولوجي والثقافي على وجه الخصوص. ولم تحدث بالمقابل عملية التركيب والتجسير المطلوبة.
هل التجسير المطلوب من مهام المثقف أم السلطة السياسية؟
الانقسامية التي كانت على المستوى الإيديولوجي واللغوي،
عندما وصلت إلى السياسي أصبحت قطاعية، أصبحنا ننظر إلى الدولة لا كدولة وطنية واحدة،
بل ننظر إليها كقطاعات. مصطفى لشرف مثلا رغم أنه يعرف العربية لكن الكثير من حاملي
الثقافة المعربة ينظرون إليه كمفرنس، وهذه الانقسامية تؤدي إلى ضعف تأثير المثقف.
وهذه المأساة هي التي أدت بالمثقف إلى الاستقالة
من الشأن العام؟
لم يستقل المثقف، لكن تأثيره يبقى قطاعيا، المثقف
المعرب يحاور جمهورا معينا والمثقف المفرنس يخاطب جمهورا آخر، وكل واحد يستعمل لغة
محددة ومفاهيم محددة ولا يتوجه إلا إلى جزء من الأمة. وعندما نصل إلى المستويات السياسية
يتحوّل الأمر إلى قطاعية. هناك جرائد تتوجه إلى جمهور معين. جريدة ''الوطن'' ذات تأثير
كبير جدا لكن في قطاع معين، في الفئات الوسطى والإطارات وكبار السن. أما ''الشروق''
فلها تأثير لدى قطاع آخر الذي يمثله المتعلمون باللغة العربية. نحن في مستويين متباينين
والنتيجة هي ضعف تأثير المثقف وعدم وجود مثقفين يقومون بعملية تجسير. ''المثقف الوطني''
غير موجود في الجزائر لكنه موجود في تونس وموجود أيضا في المغرب وفي مصر.
لو نعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، كان عدد
المثقفين قليل، لكن مع الستينيات والسبعينيات لاحظنا نمو نخبة، ولعب دورا في الصراعات
السياسية والأيديولوجية، مثلا مجموعة محمد حربي في ''الثورة الإفريقية'' ومجموعة
''القيم''، وتجد مثلا جهود أبو القاسم سعد الله وعبد الله شريط، لكن بعد ذلك لاحظنا
انحسار دور المثقف، لماذا هذا الانحسار؟
لست متفقا مع هذا الطرح. جماعة المثقفين الآن يحاولون
إعطاء صورة مثالية غير صحيحة عما الستينيات والسبعينيات. لم يكن هناك إنتاج فكري كبير
كما يقولون. لم يكن هناك إلا ''الشرطة الوطنية للنشر والتوزيع'' (سناد) وجرائد قليلة
مثل ''الشعب'' و''المجاهد''. كل الإنتاج الفكري المعروف كان يصدر في الخارج. كنت طالبا
وكانت كتب محمد حربي ممنوعة وكنا نتداولها سرا، وروايات رشيد بوجدرة كانت ممنوعة، والمنع
طال أيضا روايات محمد ديب. محمد ديب لم ينشر في الجزائر، وبوجدرة أيضا لم يكن ينشر
في الجزائر، فلم يكن هناك وجود للحياة الثقافية في الجزائر أثناء الستينيات والسبعينيات.
الدولة الوطنية القوية زمن هواري بومدين حاولت إنتاج مثقف يمثل الجميع لكنها فشلت.
عبد الله شريّط حتى الآن كان ينظر إليه على أنه معرّب رغم أنه يحسن الفرنسية ويتعامل
بها.
لقد قلت إن المثقف ليس بالضرورة هو المتعلم، وإنما
الذي يدلي برأيه في الفضاء العام. لقد حدثت معارك إيديولوجية كبيرة، مثل النقاش الذي
حدث حول الثورة الزراعية وغيرها؟
لم يحدث هناك أي نقاش حول الثورة الزراعية في الصحافة
الجزائرية. نحن الآن نقوم بتغليط الشباب.
كانت هناك أصوات، مثل عبد اللطيف سلطاني الذي عبّر
عن الإسلاميين كتب ضد الثورة الزراعية؟
لم يُقرأ له، كان في السرية.
المهم كان يكتب، المثقف حاليا لا يدلي برأيه في
الشأن العام؟
عندما نتحدث عن الإسلاميين، فإن الأمر يحيلنا على
شيء آخر. الإسلاميون نجحوا في تحطيم تلك القطاعية الانقسامية، بدليل أن جزءا كبيرا
من الإسلاميين بدأوا مفرنسين وكانوا يدرسون في العلوم والتكنولوجيا. استطاعوا تكسير
منطق الانقسامية الذي تكلمت عنه، فرغم سيطرة المفرنسين عنهم، فقد جاءوا من اللغتين
وطرحوا قضايا ثقافية فكرية في مشروع سياسي من خلال ''جمعية القيم'' وجهود مالك بن نبي
وغير ذلك، هذا تيار مهمّ يمكن أن نقرأه. لقد حاول تكوين كتلة تاريخية. قرأت مؤخرا في
بعض المذكرات أنه كانت توجد بؤرتان، بؤرة مالك بن نبي وبؤرة مولود معمري. مالك بن نبي
حاول الالتقاء مع الشباب واتصل مع الطلبة وفتح نقاشا في بيته ودخل في معارضة للسلطة.
أما مولود معمري الذي استقال من جامعة الجزائر وطرح فكرة الأمازيغية. ونلحظ أن معمري
أنتج سعيد سعدي ودفع إلى ظهور التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، أغلبية القيادات
السياسية الذين مروا على التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية كانوا ''مريدين'' لمولود
معمري ويكفي في هذا الشأن تقرأ كتاب ''20 أفريل ''1980 لأرزقي آيت العربي. أما بالنسبة
للإسلاميين فإن مالك بن نبي كوّن نواة.
تقصد تيار الجزأرة الذي سيطر على الجبهة الإسلامية
للإنقاذ؟
هذا التيار حاول السيطرة على الجبهة الإسلامية للإنقاذ
لكنه لم ينجح، فنحن بصدد تكرار فشل المثقف حتى داخل الحركة الإسلامية الشعبية التي
قادتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، مثقفو ''الجزأرة'' فشلوا في تهذيب وإصلاح الحركة
الإسلامية. والأمر نفسه ربما حصل في التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وجبهة القوى
الاشتراكية. فسعيد سعدي والطلبة الذين كانوا مع مولود معمري أسسوا أحزابا والكثير من
مناضلي جبهة القوى الاشتراكية انشقوا عنها وشكلوا التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية
لكنهم فشلوا في النهاية وجاءت حركة ''العروش''.
لو ندرس تاريخ الجزائر، هناك ثلاث اتجاهات كبرى،
جماعة مالك بن نبي والجماعة البربرية وجماعة الشيوعيين.
من هو عرّاب ''جماعة الشيوعيين'' مقابل مولود معمري
ومالك بن نبي؟
لم يكن لهم عرّاب، كانوا في إطار مدرسة حاضرة على
مستوى الإعلام وعلى مستوى الجماعة.
وكل تلك الاتجاهات الكبرى التي قادها مثقفون وصلت
إلى مداها؟
نعم وصلت إلى مداها. ومهم جدا أن نرجع إلى هذه البؤر
الثقافية، النواة التي كوّنها مالك بن نبي وأنجبت الجزأرة والتي حاولت الاستحواذ وتأطير
الحركة الإسلامية وفشلت، والأمر نفسه حدث مع الحركة البربرية. أما الشيوعيون فقد كوّنوا
تيارا سياسيا مهما، كان حاضرا على مستوى الإعلام وعلى مستوى الجامعة، لكن مجمل هذه
التيارات انحسرت الآن وفشلت في ربط علاقات مع الحركة الاجتماعية التي تمثل الشعب، وأعادت
في النهاية في جزء كبير منها هذه الانقسامية اللغوية.
كيف تفسر حالة الفشل أو النكوص، هل الأمر يتعلق
بعوامل خارج هذه الحركات الثقافية؟
لا أعتقد ذلك. هذه الحركات وصلت إلى مداها لأنها
كانت حركات نخب، رغم المجهودات الكبيرة التي بُذلت، ونأخذ مثلا مع الإسلاميين حاولوا
تجاوز المسألة اللغوية، الكثير منهم كانوا مفرنسين مثل التيجاني بوجلخة وأعضاء جمعية
القيم وغير ذلك، ولما جاءت الحركة الشعبية ووجدوا أنفسهم أمام المنطق الاجتماعي لم
يستطيعوا الوقوف أمامه. والأمر نفسه حدث في الحركة البربرية، كذلك الأمر مع الشيوعيين،
الشيوعيون قاموا بمحاولات للتجسير عندما تبنوا بعض المعربين، لكنهم بقوا في النهاية
تيار مفرنس.
الحديث عن التيار الشيوعي، هل يمكن أن يحيلنا إلى
فكرة ''الوكيل المعتمد'' لفكر نشأ في بيئة أخرى ونجد مثلا في ذلك تيار الإخوان المسلمين،
بالإضافة إلى الشيوعيين أنفسهم، وحتى الحركة الوهابية التي سيطرت بعد ذلك؟
لا أتفق مع هذا الطرح، الجزائر جزء من العالم، الإخوان
مثلا تيار دولي ولا يمكن أن تعزل الجزائر عن العالم، كذلك مع الشيوعيين والوهابيين،
هم أبناء هذا الوطن لكنهم لم يستطيعوا الإفلات من المنطق الذي فرضته معطيات عالمية
آنية.
لماذا ظهرت الحركة الإسلامية بذلك الشكل؟ هذا التيار
الشعبي الذي انفلت من كل تأطير، إلى درجة أن كل القيادات القادمة من تيار الجزأرة أعدمت
أو أبعدت وتشتت ونفيت إلى الخارج بمن فيهم حركة رشاد الحالية. لماذا حصل ما حصل؟ أعتقد
أن الأمر يتعلق بالمنطق الاجتماعي في الجزائر، هي هذه الثقافة الشعبية السياسية. والأمر
نفسه حدث قبل أكثر من خمسين سنة من الآن، أتكلم مع الطلبة وأقول لهم: لماذا فشلت جمعية
العلماء في قيادة ثورة التحرير؟ لماذا ينجح الشيوعيون في الفيتنام وغيرها ويفشلون في
الجزائر؟ لقد فشل الشيوعيون حتى في الحضور الرمزي في الحركة الوطنية. لماذا فشلت الحركة
البربرية رغم وجود مثقفين وسيطر عليها هذا التيار الشعبوي المعادي للمثقف؟ هذه الأسئلة
مهمة جدا. ثم لماذا المثقف بعيد عن الحراك الاجتماعي؟ والسؤال يتكرر في كل مرة يعاد
يطرح من جديد ونحن في سنة .2011
وما هو تفسيرك لهذه التساؤلات المطروحة؟
لقد لاحظت شيئا يحيل إلى المقارنة، في أكتوبر
1988 كانت المذيعة زهية بن عروس تقرأ نشرة الأخبار باللغة الدارجة، وفي تونس خاطب زين
العابدين بن علي التوانسة في آخر خطاب له باللغة الدارجة. معنى هذا أن الأنظمة السياسية
في المنطقة المغاربية أدركت أنها تعاني من مشكل تواصل. حدث هذا على مستوى اللغة العربية،
أما إذا تكلمنا عن اللغة الفرنسية فالأمر أكثر خطورة، فأنت تخاطبه بلغة غير لغته ومفاهيم
غير مفاهيمه. علاقتنا مع تاريخنا وثقافتنا فيها انكسار. في الأسبوع الأخير لاحظت أن
القناة الإذاعية الثالثة (الناطقة بالفرنسية) حاولت إجراء روبورتاج مع الشباب، الشباب
يتكلمون باللغة الدارجة بينما الصحفيون يقدمون الأسئلة بالفرنسية. كيف تتعامل السلطة
في الجزائر مع شباب بلغة غير لغته؟ القناة الإذاعية الأولى تتبنى لغة أزهرية وهي الأخرى
بعيدة عن نبض الشارع. الشروط الأساسية للحوار مفقودة. المثقف المعرب هو أزهري حتى ولو
كان لائكيا وتقدميا، فهو في النهاية يكتب بلغة غير لغة الناس البسطاء. هناك إذن شرخ
ثقافي كبير جدا.
وبالنسبة للفئات الوسطى، أرى أنها من أكثر الفئات
الوسطى أنانية في العالم، يريدون نمط معيشة والاستحواذ على مناصب عمل على حساب المبادئ
التي يفترض أنهم يدافعون عنها. ففي الحركات الاحتجاجية الأخيرة، وعندما ألتقي مع صحفيين
ومثقفين، يقولون إن المحتجين لم ينادوا بالديمقراطية، ولجأوا إلى الحرق والتخريب. فالمثقف
هذا يمارس حياته بشكل عاد ويعتقد أن هؤلاء الشباب البسطاء يتحوّلون من تلقاء أنفسهم
إلى رسل للديمقراطية، فهل هذا معقول؟
أمام هذا الوضع، أصبح الصحفي البسيط الذي يفتقر
إلى التكوين الفكري هو الذي يصنع الرأي العام، أين المثقف من هذه المأساة؟
لنرجع إلى الجامعة، الجامعة الجزائرية الآن في وضعية
تعيسة جدا ولا يمكن التعويل عليها تماما في إنتاج حتى المتعلم، فكيف نفسر القانون الذي
يقول إن ابن الشهيد له امتياز يحوّله إلى بروفيسور في الجامعة؟ القانون يقول إن الأستاذ
ابن شهيد يحصل على ترقية سريعة ليتحول إلى بروفيسور. إذا عوّل المجتمع الجزائري على
الجامعة، فإنه يعول على حصان خاسر. ومع هذا الفراغ الرهيب حاولت الصحافة المكتوبة أن
تلعب هذا الدور لكن دون إمكانيات. وعندما تتكون لدينا صورة هذا المشهد والصحافة تحاول
القيام بدور الجامعة ودور الحزب ولدينا جامعة راكدة، فالنتيجة كارثة. إذا كان الصحفي
الذي يحصل على أجر زهيد ويسكن في الأحياء القصديرية ولم يحل مشكلة النقل، وأن أغلبية
المنتسبين إلى الجامعة جاؤوها خطأ، فالنتيجة معروفة مسبقا.
لدينا فئات ثقافية فقيرة جدا، وبالمقابل لدينا دولة
غنية ريعية. أصحاب الشهادات في الغالب هم من أوساط شعبية، مأساة الجامعة، الصحافة والأئمة
أنهم من أوساط شعبية، والمثقف يلعب دوره عندما يكون منتميا إلى الفئات التي حلت مشاكلها
الاقتصادية. وأمام هذه المعادلة تكون النتيجة هي القابلية للرشوة.
وهل يمكن الحديث عن تراكم في النخبة قادر على قلب
الصورة؟
هناك حالات متكررة في التاريخ، تمت في عمليات إفراغ
الجزائر من مثقفيها ومتعلميها، في 1830 هاجر جزء كبير من المثقفين من تجار وقضاة ومتعلمين
مع الاحتلال، هاجروا إلى تونس وإلى المغرب وإلى الشام، والأمر نفسه تكرر مع بداية تسعينيات
القرن الماضي، حصل الشيء نفسه، فمجرد بدء الأحداث تمت عملية إفراغ الجزائر من نخبها
وتمت هجرة كبيرة جدا بالآلاف من مثقفين وجامعيين وأطباء وتركوا الشعب وحده. في كل مرة
لا يتحمّل المثقف مسؤوليته.
ما مدى نجاح النموذج التونسي في التغيير، بعد حالة
الرعب التي أحدثها النموذج الإيراني سنة 1979 وبعدها؟
النموذج التونسي هذا، وبالمقارنة مع النموذج الإيراني،
وحتى مع الاحتجاجات الأخيرة في الجزائر، أننا بصدد نماذج ما بعد الإسلام السياسي. بمعنى
أننا بصدد حركات يقودها الشعب، فيها مختلف القوى الفكرية والسياسية وتقود إلى تغيير
سياسي ''غير مخيف'' للآخر. النموذج السابق يقول بأن أي تحرك سيستفيد منه تيار واحد
وهو التيار الإسلامي، في حين أن النموذج التونسي نحن أمام دور للمحامين والجامعيين
ولحركات حقوق الإنسان وحركات نقابية، نحن أمام نموذج يلغي هذا التخوف، نحن أمام حركات
شعبية جديد يمكن أن تغيّر دون أي خوف من أن يستولي هذا التيار أو ذاك على السلطة ويقصي
غيره.
تعليقات