التخطي إلى المحتوى الرئيسي

«القناوة» موسيقى تبحث عن رابط بين تشي غيفارا وبلال بن رباح!


اسمه حسين، واسم الفرقة الغنائية التي ينتتمي إليها «الفردة»، أي فردة الحذاء، وقد قدم من مدينة بشار في أقصى الجنوب الغربي للجزائر، موسيقاه تحمل اسم «الفردة» أيضاً. وهو يتربع حاليا على عرش الغناء «القناوي».
جذور أفريقية بلمسة مغاربية

الخير شوار
لنفهم مضامين هذا النوع الموسيقي الغريب والذي تتصاعد أسهمه، فقد اتجهنا لحسين سائلين إياه عن سر النجاح الكبير الذي يحصده وفرقته، وعن تاريخ هذا النوع الغنائي وطقوسه.
يقول حسين، إن أعضاء فرقته لم يبتكروا جديدا، لكنهم أحيوا «طقوسا فنية» كادت تندثر بأقصى الجنوب الجزائري. سر التسمية «الفردة»، يعود إلى الآلة الموسيقية الرئيسة التي كانت تستعمل في هذا الضرب الغنائي. فقد كان العازفون يستعملون «قصعة» مليئة بالطعام ويغطونها بـ «هيدورة» (جلد نعجة)، ثم يضربون عليها بـ«فردة» حذاء بطريقة طقوسية!
فرقة حسين هي آخر اكتشافات المشهد الموسيقي الجزائري، لكنها اكثر الفرق نجاحا، وحضورا وجماهيرية. وقد ظهرت للسطح اول مرة خلال مهرجان «ليالي القناوي» الذي احتضنته العاصمة الجزائرية منذ سنين.
ويرى حسين، الذي ينتظر بروز فرقته على أعلى مستوى من خلال مهرجان دولي للقناوي في السنة المقبلة، مع تظاهرة «الجزائر عاصمة للثقافة العربية»، أن انتشار «القناوة»، يرجع في جزء منه إلى الرغبة الجماهيرية في العودة إلى المحلية، بعد ان طال الإعجاب بموسيقى الغرب، كما يرى بأن «الفردة» تذكر الجزائري بشيء يسكن اعمق اعماقه.
تعني «القناوة»، التي تكتب بالأجنبية (gnawa)، أسلوبا موسيقيا محليا محددا، ذا طابع صوفي تقريبا، يمتاز بزهده الآلاتي غالبا وبالروح الاحتجاجية الكبيرة التي يعبر بها عن رفض المظالم الاجتماعية والسياسية التي تحدث بالقارة الأفريقية، ويصوغ هذا الألم على شكل أقاصيص رمزية، أو أناشيد حكمية.
يقول الكاتب محمد بن زيان، ابن مدينة وهران عاصمة الراي الجزائري، إن موسيقى «القناوة» فيها لمسة صوفية واضحة، ويرجح ان يكون ذلك هو سر انتشارها بقوة في ظل موضة الصوفية الفنية التي تتسيّد الغناء العالمي حاليا، ويقول أن تلك الموسيقى انحصرت سابقا، في بعض المناطق، واستعملت في مناسبات معينة، مما جعلها تظل محدودة الانتشار، إلا أن إخضاعها للبحث الانثروبولوجي، كشف للموسيقيين الشباب عن لون غنائي يستجيب لقسم عريض من طموحاتهم الفنية.
وكان الصحافي والباحث الجزائري الراحل «مولود معمري» من أوائل دارسي هذه الموسيقى، عندما ركز أبحاثه على فرقة «أهل الليل» التي تنشط في مدينة أدرار بأقصى الجنوب الجزائري، ثم جذبت كشوفاته البحثية الكثير من المطربين الشباب، وراحوا يطعمون «القناوة» خلال السبعينات والثمانينات مع موسيقى «الريغي» لألفا بلوندي وبوب مارلي. وكانت فرقة «راينا راي» من مدينة سيدي بلعباس بالغرب الجزائري (قرب وهران) أول من «هجّن» موسيقى الراي بمسحة من الفن القناوي، لتفرخ التجربة عشرات من الفرق والمطربين الجدد، لعل أشهرها «الفردة» من بشار، و«أهلّيل» من أدرار كذلك، و«اهل الديوان» التي تتحذ من مدينة وهران معقل موسيقى الراي مقرا دائما لنشاطها.
ومن غرائب الصدف أن يكتشف «القناوة» كاتب وينشرها نجل كاتب! ذلك ان كاتب أمازيغ، وهو نجل الروائي الجزائري الأشهر كاتب ياسين صاحب رائعة «نجمة»، كان الناشر الأكبر لموجة «القناوي» الجديدة. فقد سافر هذا الشاب كثيرا مع أبيه الروائي، ولما زار معه مدينة تيميمون بولاية أدرار، اكتشف ما بدا له «الوجه الأسود» أو الأفريقي لهويته من خلال موسيقى القناوة، فاعتنقها وأعطاها وجهها المتمرد الذي يعبّر عن الاحتجاج السياسي، ليضع سنة 1992 حجر الأساس لأول فرقة «قناوي» عصرية، في مدينة غرونوبل الفرنسية. وحملت الفرقة اسم «قناوة ديفيزيون»، وشكلها مجموعة من المهاجرين الشباب العاطلين عن العمل. ولئن عرفت الفرقة من خلال اسمها بالطابع القناوي، فقد نفثت فيه الروح الأفريقية السوداء وصبغته بطاقة الرغبة في التحرر لدى الزنوج، ولم تكتف بذلك بل أخذت الكثير من الأصناف الموسيقية الرائجة، وعملت على تجاوزها. فقد استطاع أمازيغ ورفقاؤه تطعيم موسيقى العبيد الافارقة ببعض أنماط الموسيقى الجزائرية، كطابع «الشعبي» الذي اشتهر به الحاج محمد العنقاء ودحمان الحراشي صاحب أغنية «يا الرايح وين مسافر» التي أعادها رشيد طه بنجاح. كما تم تطعيم القناوة بطابع الريغي لبوب مارلي وألفا بلوندي، والروك الامريكي و«الهيث» الجزائري المغربي. ولم يكتف أعضاء فرقة أمازيغ كاتب بتزاوج الأنواع بل زاوجوا كذلك بين الآلات، لتتعرف الموسيقى القناوية لأول مرة على القيثارة الإلكترونية والبانجو والماندولين والطبلة والبندير، وغيرها من الآلات. إضافة إلى هذا الحراك الفني، كان هنالك حراك فكري أيضاً، إذ حارب أعضاء الفرقة كل التابوهات بما فيها تابو الجسد، وحولوا أغانيهم إلى صرخات ضد التهميش والإقصاء، بل والدعوة إلى الثورة. ولا عجب أن ارتدى بعض أعضاء الفرقة لاحقا قمصانا عليها صور المناضل الأممي الشهير تشي غيفارا باعتباره الممثل الأعلى لفكرة الثورة العالمية ضد الظلم بكل انواعه.
ورغم كل التجديدات، بقي أمازيغ كاتب وأعضاء فرقته أوفياء للطابع القناوي الصافي، إذ طال التجديد شكل الأغاني وأدواتها الموسيقية، لكنه لم يطل الطرق القناوية الخاصة جدا في الكتابة، والتي تعتمد على الرمز والحكمة، ما جعلها أقرب الأنواع الموسيقية إلى المغتربين الذي اكتووا بنار الظلم الغربي، ونفس الشيء مع مواطنيهم الذين أفزعتهم الدكتاتوريات الجديدة.
ورغم البعث الكبير الذي يقوده أمازيغ كاتب، فإنه ليس سوى حلقة من حلقات نمو القناوة التي تطورت عبر عشرات القرون، ذلك أن الأصل التاريخي للقناوة يمتد إلى محاولات التحرر من قيود العبودية وصراخ العبيد الأفارقة في وجه الواقع المر والاستبداد.
ويقول البعض إن القناوة هي «الوجه الاسود» لهوية الجزائريين والشمال أفريقيين عموما، وينسبونها لمنطقة «السودان الغربي» التي تقع حاليا في جمهورية مالي وما جاورها، وجاء أول مغني القناوة من عبيد أفريقيا الذين هجّروا من تمبوكتو وما جاورها إلى أقصى شمال أفريقيا، ويرجّح أنهم دعوا «قناويين» أو «غناويين» لتحدر آبائهم من دولة غينيا الاستوائية. ويقول بعض علماء الاجتماع والانثربولوجيا، إن وضعيتهم الاجتماعية القاسية هي التي جعلتهم ينطوون على انفسهم بوجه سادتهم، ويحافظون على طقوسهم الغنائية القديمة كنوع من التشبث بالهوية الأم، وإن «حاولوا» تكييفها مع الدين الإسلامي عبر إنشاء زوايا خاصة بهم، سعت للانتقال من الأصل الوثني لمعتقداتهم إلى الدين الإسلامي المطعّم بالعادات الأمازيغية لسكان شمال أفريقيا، أي سادة العبيد القناويين. ومن الغريب أن القنوايين الأوائل حاولوا المزاوجة بين الإسلام كدين توحيدي وميلهم للاعتقاد بالجان! وحتى يتجنبوا أي شبهة حول معتقداهم الغريبة فقد نسبوا أنفسهم إلى الصحابي الأسود بلال بن رباح (رضي الله عنه) الذي كان يتحدر من أصول حبشية أفريقية.
ومن العادات الغريبة للقناويين الأوائل، إقامتهم حفلات على شرف ملوك الجان مثل (شمهروش، لالا مليكة، سيدي ميمون ولالا ميمونة..) وغيرهم، يسمون كل واحدة من هذه الحفلات بـ «الليلة»، ويحاولون استحضار الأرواح من أجل قضاء حاجاتهم الدنيوية. أما الألبسة التي يرتدونها فعادة ما يكون لونها بين الأزرق والأحمر وهي الألوان التي يحبذها الجان حسب ظنهم. ولحد الآن ما يزال بعض القناويين التقليديين يجوبون المدن والقرى الجزائرية بألبستهم المميزة والغريبة وآلاتهم التقليدية. ويسمى الواحد منهم «القناوي» أو «بوسعدية»، ويميل البعض لـ«التبرك» به في طقوس احتفالية، كما تفعل بعض النسوة العاقرات حيث ينتظرن قدوم بوسعدية حتى يؤدين معه بعض الطقوس... أملا في الحصول على الذرية الصالحة.
وبعيدا عن هذا الأصل الشيطاني، يجدر التذكير بأن الكثير من أعضاء فرق القناوي قد طوروا أداءهم وتخلصوا من تلك المعتقدات القديمة، فاحتفظوا بالشكل الموسيقي وبعض طرق التعبير الجسدي، وألبسوها الهموم السياسية والاجتماعية المعاصرة. ولئن نسب القناوة القدماء أنفسهم إلى الصحابي الجليل بلال بن رباح فإن بعض القناوة المعاصرين يتخذون من المناضل الأممي تشي غيفارا رمزهم الأول. فموسيقى القناوة التي انتشرت بقوة مؤخرا في شمال أفريقيا وفي أوساط المهاجرين المغاربة، حافظت على طابعها الاحتجاجي وهو بطاقة هويتها الأولى، وابتعدت تدريجيا عن الطقوس الوثنية، لتكرس نفسها كأسلوب غنائي يرتدي طابع الحكمة والرمز، ليشير إلى الفساد السياسي والمالي الذي يعشّش بمنطقة وجودها، أي المغرب العربي. ولعل أروع مثل على ذلك، أغنية «ذئب الغابة» التي ادتها فرقة «جيل جيلالة» المغربية، ورمزت بالذئب فيها لكل حاكم مستبد حوّل شعبه إلى قطيع من الغنم، وتفرّغ لنهشه.
يبقى التساؤل عما إذا كان السهم الرابح هو للأغنية الأفريقية الشمالية في وجه هزات العولمة؟ وهل سيكون انشودة «البحث عن الذات» في زمن انهيار القيم والحضارات؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة