يوسف بوذن
-1-
هذه مؤانسة تبتهج كلما كان للحرف طعم الصمغ المعتق، والمحنة مُرّة كطعمه أو يزيد، هي ريحانة تجرّب عطرها في دروب الجمال، والجمال حظ ونصيب .
نشأت على حدود الكتاب كما ينشأ النبات على ضفاف الساقية، والنبات نافع كله متى كانت للسواقي لغة وفصاحة وخيال.
إن درس المؤانسة كتابة ثانية وموال يلحّن معاني المحنة.
وقد سبقها إمتاع، وهو جواد يبدأ تعريفه في الصحراء، أو البحر ربما، أو في الضباب!
والإمتاع ليلة واحدة، وكفى.
في الليل تـنزّلت الحكاية، والليل مهبط الوحي والسرد، والليل ينادي اليقظة، والنهار مؤجل أو وباء يفتك بالقبيلة.
ولولاه (الإمتاع)، لظلت الحاشية، رهينة البياض، والبياض غربة واحتمال.
هو حكاية بسيطة وغيبٌ، أما الرواية فهي شوق، أولّه كما بدأت:"في سابق الزمان..."
وتعني:" الآن في هذا الزمان...." وآخره الموت والسقوط في العتمة حيث الفم يرغب في الكلام، لكن الأفكار تهرب بعيدا.
-2-
كان الراوي مطمئنا في روايته، أمينا في نقلها، محايد إلى درجة البرودة، يعرف ما يزول وما يبقى، يعرف تفاصيل الحكاية وكأنها قامت دفعة واحدة، وفي ليلة واحدة، طويلة.
وعندما كان بلغته الواضحة، السافرة، يشكل جسد الرواية ولا يتدخّل في نسجها ونسيجها، كان يرفض المشاركة وينتصر على المتلقي ويهيمن عليه، فلا مجال للسؤال، الراوي يعرف البداية والختام.
هل المتن قابل للحفظ عن ظهر قلب؟ انه استبداد الدليل والرّاحلة التي تقود الحكاية مأمورة إلى مستقرها ومثواها.
هذا وجه الناطق الرسمي باسم الحكاية.
والحكاية أقامتها القبيلة، بل هي صداها، والصدى ترجيع لا ينتهي.
وكأني بها تقول على لسان رنين الحداثة:
- هاهي القبيلة تتظاهر بالخوف على المصلحة، بامتلاك دورة الخلاص والتخليص، باعتماد حرية الآخر ذريعة لإلغاء هذا الآخر، انه في ميزان مركزية الأنا(أناها) غير سوي، غير صالح، شقي، لأنه غير مألوف، فإنها تبدع له النعوت، تصنعها بالصلصال تارة، وبالهباء تارة أخرى.
القبيلة قضاء وقدر، اجتماع على رمز واعتقاد، إجماع يُزيح الفرد ويفتك بالاختيار...
المرأة لا تحب، بل تتزوج الذي يختاره كبار القوم، والهامشي لا يحب من كانت مضرب الأمثال، لأنها نصيب الرخاء.
تلوذ بكلام مثل:"و ليفعل الله ما يريد..." لأنها تخشى المواجهة.
القبيلة تعيد إنتاج القبيلة، زمن دائري يكتشف أو يتعثر دوما ببدايته.
القبيلة مستريحة إلى طقوسها، وفي ركود الحياة اليومية تفقد أفقها التاريخي، سياجها وحماها تراكم الشعائر، وقانونها التحريم والتثبيط والأنياب.
هي جماعة تتذكر الرموز وتتأكد من صحة الذاكرة، ترتل الأوراد، لتشعر بالامتلاء
والحضور، لا تبحث عن أسباب العطب والوباء، وإن حصلا، ا فهذا بلاء يستدعي الطهارة
والبخور وطلب الغفران.
القبيلة بيت الطاعة و" الزواوي" نشوز وابتلاء.
القبيلة أبٌ، و"الزواوي" يتيم الأب!
القبيلة أنجزت وعدها واستعادت مجدها الأول و"الزواوي" فاتحة التأويل.
القبيلة، غايتها القبيلة، و"الزواوي" سؤال حارق، معرفة مُحبّة وعاشقة، أبدا مولعة باقتداء الياقوت(الحقيقة).
عندما حاول فض بكارة التميمة، غرق في الدوامة، ولما نهض، كان أول ما قاله:
-الياقوت، الياقوت، أين أنت؟
-3-
و الراوي كما قلنا لسان القبيلة وحارسها الأمين، ألم تعطه اليقين ونشوة الانتصار؟
ما لم يقله الراوي، تحرر عندما كانت القبيلة نائمة، إذ كانت الحكاية تهرب من حين إلى حين، كما كانت تفعل" الياقوت" عندما كادت أن تصبح رسميا في "رقبة" التهامي.
- في ليلة ظلماء ودون أن يخبر أحدا، رحل" الزواوي الأول" ليؤسس حول النبع الأسطورة
والقداسة.
- و كانا يلتقيان(الزواوي الثاني والياقوت) كل ليلة، في الأحلام، بعيدا عن أعين الرقباء.
- و كان" الزواوي الثالث" يغادر فراشه ليلا ليحدّث شجرة التين، حديث الإنس للإنس وكان موعدا مع الياقوت.
الحكاية كادت أيضا أن تصبح في "رقبة" الراوي لو لا محنة الزواوي أخرجتها من الرتابة والاكتئاب.
البطل واحد، مفرد بصيغة الجمع، أو جمع بصيغة المفرد، وجه واحد يتناسل في زمن القبيلة الرتيب...
المحنة، جهد في السير، تخليص بالنار وتدبر في القول.
و ماذا تطلب المحنة؟
إنها لا تطلب ياقوتا بل تطلب الياقوت، هكذا وردت معرّفة في الرواية، و"الزواوي" في مراتبه كَلَفٌ بالياقوت.
والياقوت، حجر كريم، رزين، شفاف، تختلف ألوانه كالحقيقة، بل هو الحقيقة ذاتها.
"الزواوي" جهد واجتهاد، عشق وجنون، محبة للحقيقة، لكلام الكلام.
-4-
نحن أمام هزيمة أخرى إذن؟
وجع آخر، حلم آخر تضيق به جغرافية المكان وأسمائه، فيطلب تمبوكتو أو نيسابور!
تقول الفلسفة: عندما ينضب التاريخ الاجتماعي، يبرز التاريخ كحركة رمزية.
هي إذن رواية الوباء والأحلام المنكسرة.
السلطة (القبيلة)، لا تقبل غير قانونها، وكل خروج عن نسقها، يقابله الاستبعاد والنفي في أقاصي الغربة والعزلة.
و أمام العارف، الحالم، العاشق، المثقف، خيارات ثلاث:
- التمرد على القبيلة، وإنجاز نبعه الخاص، وتأخذ الياقوت(الحقيقة) شكل الذكرى الحالمة والمستحيلة، إنه الوفاء البر لحلم لا يتحقق.
- مهادنة القبيلة، فلا تنال الياقوت(الحقيقة) إلا ناقصة، عرجاء، حتى وإن تناسلت
وانفتح حزامها كلية.
- التلاشي من القبيلة، إذ تغدو الحقيقة مجرد وهم، حروف من الضباب.
هكذا يتجذر موقف السلطة من أي حلم يولد خارج نفوذها، أي حلم لم تصنعه السلطة(و هل تصنع السلطة حلما واحدا؟!)تكون نهايته التلاشي.
السلطة ماض والحلم مستقبل...
و أمام الحلم، أبواب ثلاث:
باب التمرد، مختوم بطابع الملحمة، وفيه يتحول الحلم إلى أسطورة!
باب المهادنة وهو باب يقود إلى الطاعة.
و باب التلاشي وهو باب السقوط في الحيرة، في الجرح الذي ينخر العقل، وتصبح البشارة:"حافظي على هذا الولد.... إني أرى فيه شأنا" خالية من المعنى، إنها العدمية تُطلّ بكل عنفوانها.
والحكاية كما هي الآن تدحرج إلى العبث والعدمية.
فما أشبه هذه الحكاية بنا!
من هي الياقوت؟ إنها الحقيقة.
من هو الزواوي؟ إنه المثقف.
من هي "عين معقال"؟ إنها هذه الجغرافيا التي تسمى مجازا: الوطن
وماذا منحت له الحكاية؟
العزاء والفدية!
-1-
هذه مؤانسة تبتهج كلما كان للحرف طعم الصمغ المعتق، والمحنة مُرّة كطعمه أو يزيد، هي ريحانة تجرّب عطرها في دروب الجمال، والجمال حظ ونصيب .
نشأت على حدود الكتاب كما ينشأ النبات على ضفاف الساقية، والنبات نافع كله متى كانت للسواقي لغة وفصاحة وخيال.
إن درس المؤانسة كتابة ثانية وموال يلحّن معاني المحنة.
وقد سبقها إمتاع، وهو جواد يبدأ تعريفه في الصحراء، أو البحر ربما، أو في الضباب!
والإمتاع ليلة واحدة، وكفى.
في الليل تـنزّلت الحكاية، والليل مهبط الوحي والسرد، والليل ينادي اليقظة، والنهار مؤجل أو وباء يفتك بالقبيلة.
ولولاه (الإمتاع)، لظلت الحاشية، رهينة البياض، والبياض غربة واحتمال.
هو حكاية بسيطة وغيبٌ، أما الرواية فهي شوق، أولّه كما بدأت:"في سابق الزمان..."
وتعني:" الآن في هذا الزمان...." وآخره الموت والسقوط في العتمة حيث الفم يرغب في الكلام، لكن الأفكار تهرب بعيدا.
-2-
كان الراوي مطمئنا في روايته، أمينا في نقلها، محايد إلى درجة البرودة، يعرف ما يزول وما يبقى، يعرف تفاصيل الحكاية وكأنها قامت دفعة واحدة، وفي ليلة واحدة، طويلة.
وعندما كان بلغته الواضحة، السافرة، يشكل جسد الرواية ولا يتدخّل في نسجها ونسيجها، كان يرفض المشاركة وينتصر على المتلقي ويهيمن عليه، فلا مجال للسؤال، الراوي يعرف البداية والختام.
هل المتن قابل للحفظ عن ظهر قلب؟ انه استبداد الدليل والرّاحلة التي تقود الحكاية مأمورة إلى مستقرها ومثواها.
هذا وجه الناطق الرسمي باسم الحكاية.
والحكاية أقامتها القبيلة، بل هي صداها، والصدى ترجيع لا ينتهي.
وكأني بها تقول على لسان رنين الحداثة:
- هاهي القبيلة تتظاهر بالخوف على المصلحة، بامتلاك دورة الخلاص والتخليص، باعتماد حرية الآخر ذريعة لإلغاء هذا الآخر، انه في ميزان مركزية الأنا(أناها) غير سوي، غير صالح، شقي، لأنه غير مألوف، فإنها تبدع له النعوت، تصنعها بالصلصال تارة، وبالهباء تارة أخرى.
القبيلة قضاء وقدر، اجتماع على رمز واعتقاد، إجماع يُزيح الفرد ويفتك بالاختيار...
المرأة لا تحب، بل تتزوج الذي يختاره كبار القوم، والهامشي لا يحب من كانت مضرب الأمثال، لأنها نصيب الرخاء.
تلوذ بكلام مثل:"و ليفعل الله ما يريد..." لأنها تخشى المواجهة.
القبيلة تعيد إنتاج القبيلة، زمن دائري يكتشف أو يتعثر دوما ببدايته.
القبيلة مستريحة إلى طقوسها، وفي ركود الحياة اليومية تفقد أفقها التاريخي، سياجها وحماها تراكم الشعائر، وقانونها التحريم والتثبيط والأنياب.
هي جماعة تتذكر الرموز وتتأكد من صحة الذاكرة، ترتل الأوراد، لتشعر بالامتلاء
والحضور، لا تبحث عن أسباب العطب والوباء، وإن حصلا، ا فهذا بلاء يستدعي الطهارة
والبخور وطلب الغفران.
القبيلة بيت الطاعة و" الزواوي" نشوز وابتلاء.
القبيلة أبٌ، و"الزواوي" يتيم الأب!
القبيلة أنجزت وعدها واستعادت مجدها الأول و"الزواوي" فاتحة التأويل.
القبيلة، غايتها القبيلة، و"الزواوي" سؤال حارق، معرفة مُحبّة وعاشقة، أبدا مولعة باقتداء الياقوت(الحقيقة).
عندما حاول فض بكارة التميمة، غرق في الدوامة، ولما نهض، كان أول ما قاله:
-الياقوت، الياقوت، أين أنت؟
-3-
و الراوي كما قلنا لسان القبيلة وحارسها الأمين، ألم تعطه اليقين ونشوة الانتصار؟
ما لم يقله الراوي، تحرر عندما كانت القبيلة نائمة، إذ كانت الحكاية تهرب من حين إلى حين، كما كانت تفعل" الياقوت" عندما كادت أن تصبح رسميا في "رقبة" التهامي.
- في ليلة ظلماء ودون أن يخبر أحدا، رحل" الزواوي الأول" ليؤسس حول النبع الأسطورة
والقداسة.
- و كانا يلتقيان(الزواوي الثاني والياقوت) كل ليلة، في الأحلام، بعيدا عن أعين الرقباء.
- و كان" الزواوي الثالث" يغادر فراشه ليلا ليحدّث شجرة التين، حديث الإنس للإنس وكان موعدا مع الياقوت.
الحكاية كادت أيضا أن تصبح في "رقبة" الراوي لو لا محنة الزواوي أخرجتها من الرتابة والاكتئاب.
البطل واحد، مفرد بصيغة الجمع، أو جمع بصيغة المفرد، وجه واحد يتناسل في زمن القبيلة الرتيب...
المحنة، جهد في السير، تخليص بالنار وتدبر في القول.
و ماذا تطلب المحنة؟
إنها لا تطلب ياقوتا بل تطلب الياقوت، هكذا وردت معرّفة في الرواية، و"الزواوي" في مراتبه كَلَفٌ بالياقوت.
والياقوت، حجر كريم، رزين، شفاف، تختلف ألوانه كالحقيقة، بل هو الحقيقة ذاتها.
"الزواوي" جهد واجتهاد، عشق وجنون، محبة للحقيقة، لكلام الكلام.
-4-
نحن أمام هزيمة أخرى إذن؟
وجع آخر، حلم آخر تضيق به جغرافية المكان وأسمائه، فيطلب تمبوكتو أو نيسابور!
تقول الفلسفة: عندما ينضب التاريخ الاجتماعي، يبرز التاريخ كحركة رمزية.
هي إذن رواية الوباء والأحلام المنكسرة.
السلطة (القبيلة)، لا تقبل غير قانونها، وكل خروج عن نسقها، يقابله الاستبعاد والنفي في أقاصي الغربة والعزلة.
و أمام العارف، الحالم، العاشق، المثقف، خيارات ثلاث:
- التمرد على القبيلة، وإنجاز نبعه الخاص، وتأخذ الياقوت(الحقيقة) شكل الذكرى الحالمة والمستحيلة، إنه الوفاء البر لحلم لا يتحقق.
- مهادنة القبيلة، فلا تنال الياقوت(الحقيقة) إلا ناقصة، عرجاء، حتى وإن تناسلت
وانفتح حزامها كلية.
- التلاشي من القبيلة، إذ تغدو الحقيقة مجرد وهم، حروف من الضباب.
هكذا يتجذر موقف السلطة من أي حلم يولد خارج نفوذها، أي حلم لم تصنعه السلطة(و هل تصنع السلطة حلما واحدا؟!)تكون نهايته التلاشي.
السلطة ماض والحلم مستقبل...
و أمام الحلم، أبواب ثلاث:
باب التمرد، مختوم بطابع الملحمة، وفيه يتحول الحلم إلى أسطورة!
باب المهادنة وهو باب يقود إلى الطاعة.
و باب التلاشي وهو باب السقوط في الحيرة، في الجرح الذي ينخر العقل، وتصبح البشارة:"حافظي على هذا الولد.... إني أرى فيه شأنا" خالية من المعنى، إنها العدمية تُطلّ بكل عنفوانها.
والحكاية كما هي الآن تدحرج إلى العبث والعدمية.
فما أشبه هذه الحكاية بنا!
من هي الياقوت؟ إنها الحقيقة.
من هو الزواوي؟ إنه المثقف.
من هي "عين معقال"؟ إنها هذه الجغرافيا التي تسمى مجازا: الوطن
وماذا منحت له الحكاية؟
العزاء والفدية!
تعليقات