مشهد من مسرحية صرخة أوفيليا |
ظاهرة جديدة تخترق المسرح الجزائري بقوة، انها ظاهرة اللغة العربية الفصحى، التي باتت لغة الممثلين المفضلة كما هي مطلب الجماهير الذين يأتونها مستمتعين ومصفقين. أمر كان يبدو غريباً، في مرحلة بدا وكأن العامية هي سيدة الخشبة وسرّها. لماذا هذه العودة الحماسية للفصحى؟ وكيف؟
الخير شوار
عاش المسرح الجزائري العام المنصرم أزهى أيامه مع العروض التي لم تنقطع، غير أن ظاهرة لافتة بدأت قبل سنين وترسخت أكثر في السنة الأخيرة وهي التمثيل باللغة العربية الفصحى، بنجاح لافت في الأداء، وتجاوب ملحوظ من الجمهور، الذي صفق كثيرا لعروض من هذا القبيل رغم «نخبويتها» ولغتها التي توصف أحيانا بالقاموسية.
مسرحية «هاملت بلا هاملت» التي كتبها العراقي خزعل الماجدي، تحولت مع فرقة «النوارس» المسرحية بمدينة بوقرة ضاحية مدينة البليدة (50 كيلومترا من الجزائر العاصمة)، إلى «صرخة أوفيليا»، وهي تنطلق من لحظة موت هاملت في مسرحية شكسبير الشهيرة، لتصبح حبيبته أوفيليا المحور الذي تدور حوله الأحداث. والمسرحية التي أنتجت هذه السنة حسب مخرجها كمال عطوش تدخل في سياق عمل تجريبي شاق سوف يشمل الكثير من المدارس والاتجاهات الفنية يقوم به أعضاء الفرقة وهم بالأساس طلبة جامعيون ينتمون إلى بلدة، كانت في سنوات التسعينيات من القرن العشرين مسرحا للمعارك بين الجماعات المسلحة والقوات الحكومية. وكانت الحياة بالبلدة شبه منعدمة، لكنها استطاعت أن تعود كمركز فني مهم، في ظرف وجيز، مع هذه الفرقة. والشيء اللافت في المسرحية أنها قدّمت باللغة العربية الفصحى، بتدقيق لغوي للدكتور بوجمعة والي. واستطاع أعضاء الفرقة تقديم ذلك النص بلغة عربية جميلة أمتعت الحاضرين في الحفلات المتعددة للفرقة، التي ساهمت في ترسيخ ظاهرة جديدة هي التمثيل باللغة العربية الفصحى. والمسرح الوطني الجزائري بعد سلسلة من العروض باللغة الفصحى يستعد هذه الأيام لتقديم مسرحية أخرى في هذا السياق هي «انسوا هيروسترات» للكاتب الروسي غريغوري غورين. وهي المسرحية الشهيرة التي يربي فيها البطل «هيروسترات» ديكا يصارع به بقية الديكة في حلبة مصارعة مخصصة لها. وفعلا يصبح ديك هيروسترات هو «بطل الديكة» قبل أن يتم هزمه بطرق ملتوية «غير شرعية» من خلال انهاكه بأن يصارع الكثير من الديكة في حلبة واحدة، ظناً من صاحبه أنه يخاصم ديكا واحدا. والمهم في هذه المسرحية التي ينتجها المسرح الوطني الجزائري وتعرض قريبا، أنها تمثل بالفصحى بعد سلسلة من العروض الناجحة بالفصحى أيضاً للمسرح نفسه، بدءا من عرض «الحكواتي الأخير» في بداية سنة 2007 للكاتب المغربي عبد الكريم برشيد وإخراج التونسي المنجي بن إبراهيم وتمثيل الفنان الجزائري عبد الحليم زريبيع - والتي اعتبرت أول محاولة في «المسرح المغاربي» المشترك - وليس انتهاء بـ «انسوا هيروسترات»، التي يقوم بالتدقيق اللغوي فيها الشاعر الجزائري المعروف عبد الرزاق بوكب. وعلى ذكر التدقيق اللغوي، فالملاحظ أن المسرح الجزائري أصبح يولي أهمية كبيرة للموضوع بالاستعانة بكتّاب معروفين مثل الشاعر بوزيد حرز الله الذي دقق لغويا مسرحية «لغة الأمهات». وهي من انجح العروض لهذه السنة، وقدمت لمرات كثيرة بتحكم لغوي ودرامي ملحوظ، ومثلت المسرح الجزائري في «مهرجان قرطاج» الأخير. وهي من إخراج الفنانة «صونيا» عن نص ألكسيس دارنيس واقتباس الفنان العراقي قاسم محمد، ومدعمة بقصائد ليانيس ريتوس وصياغة شعرية لبوزيد حرز الله.
ومن المفارقات أن المسرح الجزائري الذي لم يتأسس في السنين الأولى من القرن العشرين رغم محاولات التمثيل بالفصحى حينها، وإنما تأسس فعليا مع تجسيد نص بالعامية الجزائرية هو «جحا» للفنان الراحل علالو سنة 1927 التي اعتبرت أول مسرحية جزائرية. ولكن ها هي الفصحى تعود بقوة ومعها تسقط أكذوبة أن التمثيل بها لا ينجح في الجزائر. فقد تعددت أمثلة النجاح وأصبح ما يسمى "المسرح الفصيح" يشكل ظاهرة حقيقية، ومن أبرز امثلة نجاحه تلك الادوار التي جسدها الفنان عبد الحليم زريبيع، القادم من مدينة تندوف بأقصى الجنوب الغربي في الجزائر، الذي ورغم تجربته الطويلة فهو متخصص بالفصحى ولم يمثل بغيرها لحد الآن. وهذا الفنان الذي بدأ هاديا في الصحراء الجزائرية استطاع أن يتحول إلى واحد من أبرز الفنانين المحترفين بالمسرح الوطني الجزائري. وأدى هذه السنة، الدور الرئيسي بالعربية الفصحى في خمس مسرحيات وهي: «الحكواتي الأخير» للمنجي بن ابراهيم، و«أبوليوس» عن نص لأحمد حمدي، «مدونات المنشود بين الموجود والمنشود» للعراقي قاسم محمد، أخيرا «انسوا هيروسترات» التي لم تعرض بعد، وكلها لصالح المسرح الوطني الجزائري، ومسرحية «هاملت» عن نص لشكسبير لمسرح تندوف. وعن جذور هذه التجربة الفنية بالفصحى يقول الفنان عبد الحليم زريبيع لـ «الشرق الأوسط» أن «الفضل يرجع إلى الأستاذ عادل عزت من مصر الذي كان يدّرسنا بثانوية أبي الحسن الأشعري بمدينة بشار، ولتلك المدرسة التي كانت تبعد عن بيتي مسافة 800 كيلومتر كاملة. وكانت أقرب ثانوية لمقر سكني البعيد في الصحراء، وقد حبّب إلينا فن المسرح بالفصحى. وكانت أول تجربة هي إعادة تمثيل نص «المهزلة الأرضية» ليوسف إدريس، ثم توالت المسرحيات واشتغلنا على نصوص لتوفيق الحكيم وسعد الله ونوس وغيرهم». وعن نجاح التمثيل بالفصحى في المسرح يضيف الفنان زريبيع قائلا، ان التمثيل بالفصحى لم يكن ناجحا لاعتبارات كثيرة «لكننا نجحنا في «الحكواتي الاخير» التي جلبت جمهورا واسعا، واستطعنا رفقة شباب من أبناء المدرسة الجزائرية أن نؤسس لهذه التجربة المستمرة». ويرى زريبيع أن النجاح مؤكد بسبب الممارسة والإصرار، خاصة مع الحرص على التدقيق اللغوي للمختصين، وهو ما أصبح تقليدا جميلا. ويؤكد زريبيع على النجاح من خلال مسرحية «نهاية اللعبة» المأخوذة عن نص للراحل صموئيل بيكيت، فرغم حداثية النص وعبثيته وصعوبته إلا أنه استطاع أن يجلب جمهورا صفق طويلا.
المسرح الجزائري الذي تأسس عندما طلّق الفصحى واعتمد العامية، عاد إلى الفصحى وبقوة من خلال الكثير من التجارب الناجحة التي أصبحت تشكل ظاهرة حقيقية. ولا يبدو الأمر عرضا مع تعدد النجاحات في هذا السياق وتقبل الجمهور لتجربة، مرشحة للتجذر مع توفر الأرضية لها.
تعليقات