للحبيب السايح
تجربة أدبية متفردة في الجزائر. هو "محسوب" على جيل السبعينيات، بدأ من
القصة القصيرة "واقعيا" ليصدر روايته الأولى المزلزلة "زمن
النمرود" منتصف ثمانينات القرن الماضي والتي تسببت له في محنة كبيرة. كان ذلك
زمن "البعث الأول" بتعبير محمود المسعدي، تلاه "بعثا ثانيا"
في تسعينيات القرن الماضي عندما فاجأ قرّاءه بتجربة جديدة جدا انطلاقا من رواية
"ذاك الحنين"، وليس انتهاء عند "الموت في وهران" التي ينتظر
ان تصدر الربيع القادم عن "دار العين" المصرية، حيث أصبحت لك رواية من
رواياته المتتابعة لغة خاصة.
الحبيب السايح |
اقترابا من هذه
التجربة إليكم هذا الحوار.
حاوره: الخير شوار
*"الموت في وهران" هو عنوان روايتك القادمة،
لماذا هذا العنوان المفارق ووهران في مخيالنا مدينة حياة وانطلاق؟
.
الآن، لا أدري بالتحديد
لِمَ انتهى خياري إلى هذا العنوان. أنت تعرف زحمة العناوين على باب نصك الجديد. كما
أنت تعرف أني، وأنا طفل صغير، خلال حرب التحرير، أقمت مع عائلتي المطارَدة من قبل الاستخبارات
الفرنسية في ثلاثة أحياء من مدينة وهران. ودرست لاحقا في جامعتها. وبرغم كوني لا أقيم
فيها بشكل دائم فإن صلتي بها ظلت دائمة. لذلك كلما عدت إليها، عديد المرات في السنة
لأخلو للكتابة خاصة، وجدتها فقدت مزيدا من بهائها الذي سحرتني به، مثل غيري. بهاء مدينة
متوسطية كانت حاضنة ودافئة وخالبة بأزقة وسطها وواجهاتها ومقاهيها ومقشداتها وحاناتها
ومطاعمها وقاعاتها السينمائية ومكتباتها وصالونات حلاقتها وباعة الورود في ساحاتها
الضيقة وأسواقها ورجالها المتحضرين ونسائها السمراوات المتأنقات .. كل شيء في وهران
كان يضج بالحياة! هذا، إضافة إلى طبيعة الموت الآخر: إنها إعصار المحنة الوطنية التي
ضربت وهران في صميم قلبها؛ إذ فقدت غدراً خيرة مثقفيها وفنانيها. أو هي رأت غيرهم من
الباقين يهجرونها.
*كيف كنت تغالب ذكرياتك الوهرانية القديمة
وأنت تكتب هذه الرواية؟ هل تغلبت لغة الحنين على لغة الخيال؟
.
تذكاراتي كانت أقوى
اجتياحا، حقا! لذلك كان علي أن أختار ما سيكون أشد ألما: إعادة بناء حماقة الإنسان
وعبثية مصيره. وحينها، لم يعد لي، أمام ذلك، سوى الخيال. إنه القادر وحده على إعادة
بعث ما يموت. سوى اللغة الشاهدة على ما هو زائل. غير أن أوار الحنين إلى زمن وهران
السبعيني خاصة ظل مهيمنا على مشاعري. وتخفيفا من سطوته، كان لا بد من "بعثرته"
على بعض شخوص النص. كان ذلك من ضرورات الدرامية التي يستدعيها الموضوع.
*على ذكر الحنين، كيف حدث التحول في تجربتك
الروائية التي بدأت "واقعية" في "زمن النمرود"، لكنها اتخذت مسارات
مختلفة بدءا من "ذاك الحنين"؟
.
أنت تعرف، أيضا،
أن ما تسميه "التحول" ـ وهو كذلك فعلا ـ أثارته ردة الفعل العنيفة جدا لسلطة
الحزب الواحد الحاكم في الجزائر على روايتي الأول "زمن النمرود"، 1985. فقد
سحبت الرواية من المكتبات ومنعت من التداول وطحن ما كان بقي منها في المخزن الرئيسي
للمؤسسة الوطنية للكتاب. ذلك، لكونها تجرأت على قول المسكوت عنها بلغة نيئة، كما كان
لا بد أن تسمى بها الأشياء.
وقد تسبب لي ذلك
في متاعب نفسية واجتماعية وعائلية ومخاطر هددت حياتي ذاتها؛ حدَّ أني اضطررت إلى الالتجاء
تباعا إلى مدينتي البيّض ووهران (مرة أخرى!) إلى أن هدأت فَوْرة الاستعداء علي.
كانت التجربة، لدرجة
مرارتها القصوى، أتاحت لي قدْرا عظيما من التأمل. فقد سكت حوالي خمس سنين. وبعد خمس
سنين أخرى نشرت "ذاك الحنين". كانت روايتي الثانية التي سأراجع من خلالها
قناعاتي الفكرية والتقنية والجمالية في الكتابة. وأنت، صديقي الخير شوار، من الذين
يعرفون ذلك جيدا؛ لأنك قرأت النص وكتبت عنه.
أشعر أني، في كتابتي
اللاحقة، مدين جدا لنص "ذاك الحنين"؛ فهو الذي سيتأسس لي لبناء مشروعي كله.
رواية "تلك المحبة" كانت أبرز تجسيداته. وهو الذي سيجعل تجربتي، كما تقول،
تأخذ مسارات ستعطي كل نص من نصوصي اللاحقة بصمته الخصوصية؛ لا بالنسبة إلى غيره من
بقية نصوص المتن الجزائري والعربي، ولكن بالنسبة إلى نظيره من نصوصي السابقة نفسها؛
من حيث الموضوعات والمقاربات اللغوية خاصة.
*ماذا عن لغتك، إذاً، وأنت تكاد تكتب كل
نص جديد بلغة جديدة، ما هي بالفصحى وما هي بالشعبية؟
.
كما ذكرت لك أعلاه،
وأنت مصيب في تقديرك، فإن رهاني ظل ولا يزال قائما على حدّ اللغة في أبعادها القاموسية
والنحوية والصرفية والمجازية. فإني لست منشغلا كثيرا بالسيطرة على الموضوع ولا بإتقان
الحبكة (وأنا، للتذكير، لست كاتب حبكة) قدْرَ انشغالي بالقاموس الذي يجب أن يسمي لي
الأشياء ـ كل الأشياء ـ وتفاصيلها التي تواجهني لحظة الكتابة لتجسيد مشهد ما. هنا مشقة
الكتابة بالعربية في الجزائر. لا شيء تقريبا يأتيني ـ أو يأتيك ـ إلا بعد ترجمته من
لغة الأم أو من لغة أخرى أجنبية؛ لأن رصيدنا اللغوي منهوب تاريخيا وهو الآن يواجه مزاحمة
شرسة جدا. أؤكد لك أننا لا نكتب في الجزائر إلا عبر الترجمة؛ عكس أشقائنا في المشرق
الذين يكادون يكتبون كما يتكلمون، كما يعيشون! من هنا قد تبدو لغتنا العربية مغايرة.
*بخصوص لغتك "الصعبة" المنحوتة،
اسمح لي بطرح هذا السؤال الساذج: لمن تكتب؟ من هو قارؤك؟
.
سؤالك من الذكاء
بمكان؛ لأنه يطرح ضمنيا مسألة الوضع اللغوي ومشكلة المقروئية في الجزائري. ومهما يكن،
فلا تزال قناعتي قائمة حول أني أكتب لزمن غير زماني هذا ولقارئ لا أعرفه؛ قد يكون موجودا
ذات يوم.
لعل الصعوبة، التي
تتحدث عنها، متأتية من بعض ما ذكرته لك أعلاه عن مسألة الترجمة.
أما النحت فقد يعود
إلى كوني، بناء على مشروعي، أقاوم أن لا تتسرب إلى صفاء إنشائي الأدبي، لغات الصحافة
واليومي والعادي من المقُول والمكتوب.
مشروعي، إذاً، مؤسس
على ما يسمى رواية الشكل؛ لا رواية الموضوع. من هنا سعيي الحثيث ـ المؤلم كثيرا ـ إلى
تلك الكتابة التي تنتصر للأدبية.
ونهاية، ألا تعتقد
معي، يا صديقي، أن الكتابة الأدبية، في سموها، هي فعل موجه بالضرورة إلى النخبة؟
*قرأنا لغة مدينة سعيدة "زمن النمرود"
و "ذاك الحنين" ولغة مدينة أدرار الصحراوية "تلك المحبة.."، ماذا
عن لغة وهران "الموت في وهران" المنتظرة؟
.
وربما لغة المدينة
ـ أي مدينة جزائرية داخلية خلال عشرية المحنة الوطنية ـ في (مذنبون .. لون دمهم في
كفي) وربما لغة الهضاب العليا والمقامات في (زهوة) أيضا!
لا بد سيظهر في نص
"الموت في وهران"، حين صدورها (خلال الربيع في القاهرة عن دار العين)، أن
الاشتغال كان على بناء الجملة النحوي لاستيعاب أكثر من زمن وفضاء في مشهد (سياق) واحد؛
بشكل يجنب اللجوء إلى الفلاش باك، بواسطة الاعتراضات (الجمل البسيطة) داخل الجملة المركبة.
وهو اشتغال مرهق جدا؛ بالنظر إلى إلزامية مراعاة أن تظل أدوات الربط قائمة ومفضية إلى
المعنى النهائي للجملة. وفوق ذلك أن تحقق تلك الجملة أقصى درجات الاقتصاد اللغوي لحصر
الدلالة في حقلها الموضوعة له.
*سعيدة، أدرار، وهران.... كيف تقرأ هذه المدن،
وأيها أقرب إلى وجدانك؟
.
ومدينة البيّض أيضا،
التي آوتني خلال نكبتي مع "زمن النمرود"! مدينة سعيدة هي الجرح النازف في
قلبي بما طالها من خراب لمعالم ذاكرة طفولتي فيها. مدينة أدرار كانت ملجئي خلال عشرية
مأساتنا الوطنية. آمنتني من خوفي ومنحتني أن أحبها فبادلتها عشقا كان على درجة معرفتي
الله فيها جميلا بلا غضب! أما وهران فلا تزال، برغم أفول بهائها، محافظة في قلبي على
جمرة أودعتْها إياه يوم رأيت عرض بحرها أول مرة فحسبته مرجا أزرق؛ كنت طفلا حينها.
*تقول الأغنية الشهيرة "سعيدة بعيدة
والماشينة غالية"، هل من عودة سردية أخرى إلى مدينة سعيدة بعد "الموت في
وهران" ؟
"والماشينة غادية" في رواية أخرى! لا
أدري يا صديقي الخيّر، لا أدري. يبدو لي فضاء سعيدة انحسر إلى درجة الحرج. لم يعد فيها
ما يثير. لم يبق لها غير تاريخ مجيد، خلال حرب التحرير، مهدد بالنسيان. وهذا الميراث
الفني والأدبي الذي عرفت به في سبعينيات القرن الماضي، يطاله الجحود.
تعليقات