التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر


يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم

حاوره: الخير شوار
وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟
علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية
اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة والتلفزيون، مثلما غنوا منفصلين عن بعضهم داخل أوركسترات خاصة بكل طائفة على حدة• المْعَلَّمْ اليهودي بن فَرَاشُوا تتلمذ على يد المسلم الشيخ المْنَمَّشْ في النصف الثاني من القرن 19م دون أن يكون اختلاف الديانة حاجزا بينهما، وتعلم المْعَلَّمْ يافيل ابن الشّباب، اليهودي هو الآخر، أصول الطرب الأندلسي، حسب أسلوب ما يُسمى بمدرسة ''الصنعة'' الخاصة بمدينة الجزائر، على يد المسلم الشيخ محمد بن علي سفنجة الذي توفي سنة 1908م، مثلما درَس مسلمون الغناء الأندلسي على يد مْخِيلَفْ بوشَعرة ولاَهُو صِرُورْ ومُوزِينُو (إسمه الحقيقي شاؤول دوران) وألفريد لبراطي -(Alfred Lebrati) المعروف بـ: المْعَلَّمْ السَّاسِي وغيرهم
وإذا عدنا إلى الماضي القريب، توجد، على سبيل المثال،أغنية من نوع ''التَّانْغُو'' الأرجنتيني معروفة هي ''أنا الوَرْقَة المسكينة، اللِّي سقطتْ من العَرْفْ، اَمْسَاتْ يابسة وحزينة، رَانِي هَايْمَة مَا نَعْرَفْ•••'' للمغني اليهودي الشهير لِيلِي بونيش• أغلب الناس يجهلون أن صاحب كلماتها هو الحاج مصطفى كشكول وملحنها هو مصطفى اسكندراني عازف البيانو الغني عن التعريف، وهي إذن ثمرة تعاون فني بين مطرب يهودي وفنانيْن مسلميْن والثلاثة من مدينة الجزائر• ويكفي أن تسمع أغاني بونيش، إبن حيّ ''جَامَعْ اليْهُودْ'' في قلب القصبة الذي توفي سنة 2008م، لتعرف عمق الصداقة والإحترام الذي كان يكنه لفنانين مسلمين كالحاج مْحمد العنقاء ومصطفى اسكندراني وآخرين، ولم أسمع إلى اليوم أي أحد يطعن في ليلي بونيش سواء في أوساط المسلمين أو اليهود
هذه أمثلة أسوقها لأقول بأن ممارسة اليهود للغناء الجزائري، الحضري بشكل أساسي، كان أمرا طبيعيا ولا غرابة فيه• بل حتى الأحداث السياسية الكبيرة التي أثرت على العلاقات بين المسلمين واليهود في الجزائر كأحداث قسنطينة في الرابع أوت 1934م وأحداث اغتصاب فلسطين في 1948م، ثم اعتداءات، بل ''مجزرة'' على حد تعبير المؤرخ الفرنسي جيلبير مينييه (Gilbert Meynier)، اليهود على المسلمين في قسنطينة في عيد الفطر سنة 1956م وموقف الطائفة من الثورة التحررية وغيرها لم تُحدِث القطيعة بين الطرفين وإن أثَّرتْ بعض الشيء على الثقة بينهما• ولا يجب أن ننسى أن مطربة يهودية مثل أليس الفيتوسي (Alice Fitoussi) بقيتْ في الجزائر، في حي الأبيار، بعد الاستقلال إلى غاية وفاتها، لأن هذه المطربة، التي تنحدر من أسرة يهودية محافظة من مدينة برج بوعريريج، لم تكن تعرف وطنا آخر غير الجزائر• وكانت سيمون الطَّمَّار (Simone Tammar) تتردد بشكل شبه منتظِم على مدينة قسنطينة بعد استقلال الجزائر لتغني مع أصدقائها من الفنانين المسلمين المعروفين في هذه المدينة إلى غاية وفاتِها، بل قتْلِها من طرف زوجها في فرنسا لأسباب عائلية، في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي• كما يجهل الكثير أن الفنان رْوِيمِي الشهير بـ ''بْلُونْ بْلُونْ'' (Bland Bland) غنى في كاباريه ''الكُتُبِيَّة'' في شارع ديدوش مراد في العاصمة الجزائرية في بداية السبعينيات رغم كل ما كان يقال في الإعلام الغربي عن تشدد الرئيس هواري بومدين إزاء اليهود••

وكيف حدث التحول؟
الموضوع تحول إلى طابو عندما لم يعد يوجد يهودا تقريبا ولا فنانين يهودا في البلاد، ما أدى إلى نسيان الماضي الفني المشترك من جهة وكأنه لم يكن، خصوصا لدى الأجيال التي لم تعاصر آخر جيل من الفنانين المَوْسَوِيِّين في البلاد• ومن جهة أخرى، خربتْ، الكوارث التي أحدثتها الصهيونية في فلسطين وفي لبنان وغيرهما، العلاقات بين العرب والمسلمين بشكل عام من جهة، واليهود من جهة أخرى• لهذا كله، أصبح من الصعب التمييز بين اليهودي والصهيوني خصوصا بعد أن التحق يهود بالصهيونية جهرا على غرار الفنان غاستون غريناسية المعروف بـ ''أنريكو ماسياس'' الذي غنى للجيش الإسرائيلي بعد هزيمة حرب 1967م وقبله في الجزائر الفنان ريموند ليريس مغني المالوف الذي يشتبه في تعاونه مع الاستعمار ضد الثوار الجزائريين وحتى في انخراطه في المؤامرات الإسرائيلية المعادية لاستقلال الجزائر في آخر سنوات الثورة التحريرية• أحداث كهذه حولت اليهودي بشكل عام في المخيال الشعبي وحتى لدى الكثير من السياسيين إلى خائن حتى أصبح مجرد الاستماع لغناء الفنانين اليهود جزائريي الأصل أو الحديث عنهم أمرا مشبوها لدى بعض الجزائريين• الحاج محمد الطاهر الفرقاني وحمدي بناني وسليم الفرقاني، وحتى عبد القادر شاعو، وآخرون لم يتوقفوا أبدا عن الغناء مع اليهود ولليهود في فرنسا، لكن دون الجهر بذلك نظرا لحساسية الموضوع

الكثير من الفنانين اليهود الجزائريين، إعتقد البعض أنهم فارقوا الحياة منذ عقود طويلة لحظة ''الرحيل''، لكنهم عادوا فجأة في السنين الماضية، ما سر هذه العودة في رأيك؟
هذا صحيح، ساد الاعتقاد أنهم في عداد الموتى، لأن أغلبهم توقف عن الغناء بشكل كلي أو جزئي بعد الرحيل إلى فرنسا ولم يعد الناس يسمعون لهم إنتاجا جديدا، مما أدى إلى نسيانهم• وكان جزائريون آخرون يرفضون أن يسمعوا غناءهم، بما فيه القديم منه المسجل في الجزائر في عهد الاحتلال، لأسباب سياسية تعود إلى الاضطهاد الإسرائيلي المسلط على الفلسطينيين في الشرق الأوسط ولموقف الطائفة اليهودية المتخاذل أو حتى الخائن في العديد من الحالات إزاء الثورة الجزائرية• مثل هذه الأسباب حولت هؤلاء الفنانين اليهود إلى ما يشبه أطلال تاريخ تعبر عن زمن غابر ولو أنهم كانوا ما زالوا أحياء يرزقون• ويمكن ذكر بعضهم: ليلي بونيش، مثلا،  توقف عن الغناء بعد زواجه من كُونْتِيسَة (comtesse) الثَرِيَّة، المْعَلَّمْ زُوزُ وإِيبِيهُو بن سْعِيدْ إعتزلا وكان مُسنَّيْن وسرعان ما توفيا في مدينة نيس، بجنوب فرنسا، في بداية السبعينيات، وتفرغ موريس المديوني عازف البيانو والصديق السابق لِبْلاَوِي الهُوَّارِي للتجارة في مدينة مرسيليا بعد تجربة فاشلة في إسرائيل ومحاولات فنية غير مثمرة في الكباريهات والمقاهي في فرنسا• كما تحول أنريكو ماسياس إلى أغاني المنوعات الفرنسية منذ نجاحه الجماهيري بأغنية ''تركتُ بلدي'' (J'ai quitté mon pays) بعدما تلقى تكوينا في المالوف إلى غاية رحيله عن الجزائر وعزفه في الأوركسترات الجزائرية في باريس طيلة السنوات الصعبة التي أعقبت الرحيل• أما ليلي العبَّاسي وسيلفان غريناسيا، والد أنريكو ماسياس، عازف آلة الكمان آلتو المعروف، وبْلُونْ بْلُونْ، وروني بيريز، ومغنيَّيْ المالوف إيدمون عَطْلاَنْ وألكسندر جودا النقاش وغيرهم فلم يتمكنوا بشكل عام سوى من الغناء في الأعراس وحفلات الـ: ''بَارْ مِيتْزْفَاه'' اليهودية وفي المقاهي والكباريهات لكسب القوت، ونادرا ما نجح بعضهم في اختراق استوديوهات الإذاعات والقنوات التلفزيونية الفرنسية واستوديوهات التسجيل على الأسطوانات، لا سيما وأنهم كانوا يغنون فنا عربيا في بيئة اجتماعية أوروبية لا تتذوق الطرب الشرقي

وماذا عن العودة إلى الغناء؟
عودة البعض منهم إلى واجهة الأحداث الثقافية تعود إلى منتصف الثمانينيات، وكانت هذه العودة خاضعة لعدة تجاذبات: تجارية للكسب من الغناء الشرقي العربي الذي بدأ الجمهور الفرنسي يُظهر بعض التفتح، عليه بنظرة استشراقية هاوية للإِيكْزُوتِيزْمْ، بعد وصول الاشتراكيين إلى السلطة وتنامي تأثير الجالية العربية المهاجرة في سوق الغناء الفرنسي من جهة، وأيضا لأسباب سياسية من جهة أخرى إذ وظف غناء هؤلاء الفنانين اليهود في سياق التفاوض، الذي كان لا يزال سريا آنذاك، بين الفلسطينيين وإسرائيل، من أجل السلام قبل أن تقوم الصهيونية بمحاولة توظيفه التي لا تزال متواصلة ومصحوبة بما يشبه إعادة كتابة التاريخ الفني، والثقافي بشكل عام، في العالم العربي بما يُسْمِنُ دورَ الطوائف اليهودية العربية في النهضة الثقافية العربية وحماية التراث الثقافي العربي• ولم يقتصر الأمر في هذا المجال على الغناء في الجزائر بل تعداه إلى دور هذه الطوائف في العراق واليمن ومصر ولبنان وتونس والمغرب•• إلخ• وشمل ميادين أخرى كالمسرح الذي أصبحت ريادة ظهوره حديثا في البلاد العربية تُنسبُ إلى يهودي من مدينة الجزائر يُسمى آبراهام دانينوس (Abraham Daninos)  كان من الخونة الذين التحقوا بجيش الاحتلال منذ انطلاق حملة الجنرال دوبورمونت من مدينة تولون في جنوب فرنسا في صائفة 1830م• والمشكلة تكمن في أن هذه الأطروحة أطربتْ بعض الجزائريين بدغدغتها لحسهم الوطني كرواد للمسرح العربي الحديث بدلا من مارون النقاش اللبناني، وأغرتهم بتبنيها دون تحقيق وتمحيص
من خلال إعادة كل من الفنانة سلطانة داوود المعروفة بـ ''رينات الوهرانية'' 'oranaise) (Reinette l وليلي بونيش إلى الواجهة وتكريمهم حتى من طرف المركز الثقافي الجزائري في باريس، نجح المنتجون، بمساعدة وسائل الإعلام، في اللعب على وتر الحنين وإعطاء نفس جديد لغناء يهود الجزائر في فرنسا إما بإعادة إنتاج الأسطوانات القديمة بعد تنظيفها من الناحية التقنية وإصدارها في أقراص مضغوطة أو بإعادة تسجيل الأغاني القديمة بأصوات أصحابها وهم في آخر العمر• وبهذا النجاح، تشجع آخرون ودخلوا الساحة الفنية من جديد بتسجيلات قديمة - جديدة وبإحياء الحفلات مثلما هو شأن رُونِي بِيرِيزِ (René Perez) وبْلُونْ بْلُونْ وألكسندر جودا النَّقَّاشْ وأبنائه، ولِينْ مُونْتِي (Line Monty) التي كان آخر ظهور فني لها قبل وفاتها في قاعة معهد العالم العربي في باريس قبل سنوات، والإخوة عتَّالِي (Attali) في مرسيليا ولُوكْ الشَّرقِي  (Luc Cherki) الذي غنى قبل بضع سنوات فقط ضمن فرقة ''الغُوسْطُو'' (El Gusto) الجزائرية تحت قيادة محمد الهادي العنقاء•• إلخ

عودة إلى علاقة الفن بالسياسة، ما سر ارتباط هؤلاء الفنانين بهذا النوع الموسيقي المحلي، والكثير منهم إختار في لحظة تاريخية إنتماء حضاريا آخر، إنطلاقا من قانون ''كريميو'' سيء الصيت؟
أعتقد أن هذا الارتباط لا علاقة له بالسياسة• في نظري، هو ارتباط وجداني نابع من انتمائهم الثقافي العميق للجزائر والذي لم ينجح مرسوم ''كريميو'' في محوه وإلغائه بعد أكثر من قرن من صدوره
هؤلاء، بشكل عام، جزائريون في عاطفتهم، في مخيالهم، في أذواقهم الموسيقية والجمالية وحتى في الكثير من عناصر هويتهم، وإن اختلف الانتماء الروحي• التوظيف السياسي يأتي في المرتبة الثانية ولم يقبل بالمشاركة فيه سوى القليل من بين أهم هؤلاء المغنين مقابل امتيازات تسمح لهم بتحقيق الشهرة والمكاسب المالية• ليلي بونيش مثلا بقي يرفض اعتبار أن الغناء الأندلسي غناء ''يهودي - عربي'' (judéo-arabe)، كما أصبحت الدعاية الصهيونية ووسائل الإعلام الغربية تروج لذلك، وقال إنه غناء عربي وكفى• ورفضت سلطانة داوود الغناء في إسرائيل إحتراما لأصدقائها المسلمين
الكثير من هؤلاء الفنانين أناس بسطاء ومتواضعي الحال ماديا، والبعض منهم يهمهم أكثر أن يعثروا على فرص تُشهرهم وتحسن مستواهم المعيشي أكثر من اهتمامهم بالبعد السياسي أو بـ: مَاذا وكيف وأين يغنون؟
ومن بين الذين دخلوا اللعبة السياسية أنريكو ماسياس الذي أصبح يقدم نفسه كشيخ من مشايخ المالوف بعد أن ''شيَّخَ'' صهره ريموند ليريس الذي لم يُعرف أبدا إلى غاية مقتله في 1961م بهذا اللقب الكبير في قسنطينة الذي اعتقد أنه أكبر من حجمه رغم نبوغه في المالوف• وما لا يعرفه الناس هو أن الفنان القسنطيني توفيق بستانجي تعب في تلقين ماسياس عدد من أغاني المالوف تُعتبر في قسنطينة من الأبجديات على غرار ''قم ترى براعم اللوز، تندفق عن كل جهة''، ومع ذلك كان أداؤه لها يتضمن العديد من الأخطاء اللغوية والشوائب الفنية الأخرى

من الذي خدم الآخر أكثر؟ يهود الجزائر أم الموسيقى الأندلسية؟
ماذا لوقلبنا السؤال إلى هذه الصيغة: ''مَن خدم الآخر أكثر الفنان الجزائري إيدير أم الموسيقى الغربية؟ الفنان الصافي بوتلة أم الموسيقى الغربية؟ الموسيقار محمد إيقربوشن أم الموسيقى الكلاسيكية الغربية؟
أعتقد أن الموسيقى لغة عالمية ملك لكل البشر قبل كل شيء تنمو وتتطور وفق ما يشبه ''الأُوسْمُوزْ'' الذي يحدث داخل الخلايا، أي بالتبادل والتلاقح
الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر، وذلك إلى غاية تخليهم لسبب أو لآخر عن هذا الانتماء• بعضهم لمع والبعض الآخر بقي مغمورا• كان من بينهم نجوم مثلما تَطفَّل آخرون على هذا الغناء لكسب لقمة العيش بالضبط مثلما يحدث بين الجزائريين المسلمين وفي كل المجتمعات
لكن أن يقال أنهم رواد هذا الغناء الجزائري أو أي نوع من أنواع الغناء في الجزائر أو أن دورهم كان أهم من دور المسلمين فيه فإن أقل ما يمكن الرد به هو أن هذا الكلام غير صحيح• وفي حقيقة الأمر، كانوا مغنين مقلدين للمسلمين وتلاميذ لهم ولم يكونوا منتجين وإن نبغ بعضهم• أبرزهم وأكثرهم أهمية في تاريخ الجزائر المعاصر هم بن فراشو والمعلم يافيل وموزينو وبوشعرة ولاهو صرور واللَّجَّام والمعلم السَّاسي وقد تكونوا جميعهم على يد الشيخ المنمش أو الشيخ سفنجة أو ابن التفاحي أو محي الدين الأكحل أو لِيُعلِّموا بدورهم ما تعلموه ليهود ومسلمين في مدارس الجمعيات وفي المعهد الموسيقي البلدي لمدينة الجزائر وفي مجالس الطرب الأخرى كالحفلات والأعراس• وأنا لا أتحدث عن أغاني المنوعات بل أتحدث عن الأساس وهو الغناء الحضري الأندلسي بروافده ومشتقاته كالحوزي والعروبي والزنداني حتى الشعبي العاصمي• لاحظ أن الفنانين الجزائرين المسلمين الذين استقروا في فرنسا أسسوا عشرات الجمعيات الموسيقية وفتحوا المدارس لتعليمها ويمارسون هذا الغناء في مختلف المدن الفرنسية وفي كبريات القاعات وأكثرها شهرة، فيما تنطفئ يوما بعد يوم شعلة الطرب الأندلسي في الوسط اليهودي في فرنسا كلما انطفأ فنان من فناني هذه الطائفة الذين رحلوا عن البلاد بعد الاستقلال

لك أكثر من كتاب يتناول موضوع ''يهود الجزائر''، ما سر الاهتمام بهذا الموضوع الملغم؟
الموضوع ليس ملغما وإنما لغمناه بالجهل وبسوء التعامل مع المشكلة الصهيونية• أنظر إسرائيل اليوم قررت إدخال اللغة العربية رسميا وإجباريا في التعليم الإبتدائي بينما ألغينا نحن اللغة العبرية من الجامعات منذ عقود ولما تفطننا لهذا الخطأ وتقرر العودة إلى تعليمها في جامعة الأمير عبد القادر في قسنطينة قبل عام على ما أعتقد، سمعتُ وقرأتُ أن هناك من اعتبر القرار تطبيعا
إسرائيل أصبحت تنتج النظريات في المجال الثقافي العربي مثلما هو حال أعمال البروفيسور شموئيل موريه في الأدب والمسرح العربي وإيدوين سيروسي وآمنون شيلواح في الموسيقى العربية التي مارسها اليهود، وكذلك روفين سنير وغيره، بينما نكتفي نحن بتبني هذه الأطروحات، أحيانا بسذاجة، خصوصا إذا دغدغت عواطفنا لغايات قد نكتشف أبعادها وخطورتها بعد عقود، عليك بمقارنة عدد الذين يتقنون اللغة العربية من يهود إسرائيل مع عدد الذين يتقنون بل يعرفون فقط اللغة العبرية في الجزائر• أعجبني كثيرا ما كتبه المرحوم بن يوسف بن خدة في كتابه حول ''جذور أول نوفمبر''
er Novembre)1 (Les origines du إذ قال إن التاريخ إن لم تكتبه أنت وأنا فسيتكفل به الغير، ولن يكتبه بالضرورة حسب مصالحنا وكما تمليه الحقائق التاريخية، بل قد يوجهه كما يشاء لتحقيق أغراضه الخاصة

لديك اهتمام خاص بالموسيقى الدينية الجزائرية•• لماذا في رأيك ''انقرض'' هذا النوع الجميل، هل هي ''الوهابية'' التي قضت على كل خصوصية جزائرية؟
ليس من العدل مسح ''الموس'' في الوهابية رغم عيوبها المتعددة، الموسيقى الدينية كانت ولا تزال محترمة حتى في أوساط وهابيي جمعية العلماء المسلمين في عهد الاحتلال• أعتقد أن ''الاشتراكية ذات الطابع الجزائري''، مثلما كنا نسميها، والذهنية اليسارية التي كانت متعطشة غداة الاستقلال لوضع أسس جزائر ''عصرية'' بأي ثمن وإحداث القطيعة مع ''التخلف'' أدت إلى رمي الرضيع مع المياه الوسخة بعد الانتهاء من غسله• كما ساهم في هذه الوضعية الفكر الإصلاحي لجمعية العلماء المسلمين الذي حارب أحيانا بطريقة عشوائية الطرقية والزوايا التي رغم عيوبها الكثيرة قدمت خدمات ثقافية واجتماعية
وبشكل عام، إستعجال التقدم واللحاق بركب الأمم غداة الاستقلال أدى إلى إهمال جوانب كثيرة من مقومات هويتنا• ولا تزال هذه الأخطاء متواصلة بالإهمال واللامبالاة وضعف الإحساس بالمسؤولية لدى من كُلِّفوا بالمسؤوليات• في سنة 1999م، أراد الشيخ أحمد سري عميد الغناء الأندلسي في الجزائر تحضير مجموعة من الشباب الهواة من بينهم أعضاء في المجموعة الصوتية ''نغم'' للإحتفال بالمولد النبوي الشريف في ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي في القصبة بتلقينهم بعض المدائح لسيدي محمد إبن الشاهد وغيره على الطريقة المحلية الأندلسية الأسلوب، لم ينجح في نهاية المطاف حتى في الحصول على غرفة أو قاعة لإجراء التمرينات والتدريبات الصوتية للتلاميذ واضطر للتحضير في كنيسة القلب المقدس (Sacré Coeur) في أعالي شارع ديدوش مراد بفضل كرم قسيس هذا المعبد المسيحي زاد الله في فضله

هل من مشروع كتاب في الأفق، يتناول هذا التراث الموسيقي الديني في الجزائر؟
- أنا بصدد تحضير كتاب باللغة العربية حول الغناء الأندلسي في الجزائر بمختلف مدارسه: الصنعة، الغرناطي والمالوف، في جوانبه الدنيوية والدينية• وبالتزامن مع ذلك، أحضِّر كتابا آخر باللغة الفرنسية حول الجاليات الأندلسية في الجزائر منذ سقوط غرناطة بشكل خاص وكيفية إدماجهم في الجزائر من طرف السلطة العثمانية• وهذا يقودني إلى التعرض إلى تأثير فكرهم الصوفي على سكان الجزائر ككل آنذاك من خلال الزوايا والطرق الصوفية• الناس في الجزائر نسوا أن سيدي منصور في بولوغين وسيدي مجبر في بوزريعة وسيدي الكبير في البليدة مثلا أندلسيون

كتبت عن الجزائر العاصمة ومفاصلها العمرانية والتاريخية، أنت تعيش فيها، فكيف تقرأها الآن وأنت بعيد عنها؟ هل تبدو لك الصورة أجمل أم أبشع؟
بكل صراحة أبشع، لأن الأمور في بلادنا في تدهور وليس في تطور• أتذكر أن بوتفليقة صُدم لما زار شارع العربي بن مهيدي في  سنة 1999م/2000 على ما أعتقد، وتأسف بعبارات قوية أمام الكاميرات عما كان عليه هذا الشارع في عهد الاحتلال والسنوات الأولى التي تلت الاستقلال وكيف أصبح•• أعتقد أنه لو زاره اليوم لمات قبل أن تنتهي عهدته الحالية
عاصمة طفولتنا كانت أفضل وأجمل وأنظف من عاصمة شبابنا، وعاصمة شبابنا كانت أحسن من عاصمة نهاية شبابنا، وحسبما تسير عليه الأمور في البلاد، أتوقع لها أن تؤول إلى الأسوأ خلال العقد المقبل على الأقل، وقد تنهار أجزاء هامة من معالمها ونضطر إلى إعادة البناء وتضييع أموال وتراث ستحاسبنا عليه الأجيال القادمة

الباحث في سطور
كاتب صحفي جزائري، إشتغل طويلا في الصحافة الجزائرية واشتهر بروبورتاجته التي تتناول الجزائر العاصمة، من زوايا عمرانية وتاريخية وثقافية مختلفة
إشتغل على موضوع، يهود الجزائر منذ تسعينيات القرن الماضي، وأصدر في هذا الصدد ثلاثة كتب الأول ''يهود الجزائر•• هؤلاء المجهولون''، والثاني ''يهود الجزائر•• موعد الرحيل''، وأخيرا ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب''، الصادر حديثا عن دار قرطبة بالجزائر، وعرف عن الباحث فوزي سعد الله اهتمامه الكبير بالتراث الموسيقي الجزائري، بما فيه الديني

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز