أحمد مهساس |
هذه رسالة نادرة كتبها المناضل أحمد مهساس، كان قد صدر أصلها لمرة وحيدة في كتاب محمد حربي ''جذور جبهة التحرير'' الذي صدر سنة ,1975 والرسالة كتبت في جو الانشقاق الذي عصف بحزب الشعب - حركة انتصار الحريات الديمقراطية· ففي شهر ماي 1954 وعندما يئس من طرفي النزاع، اتجه للمناضلين داعيا إياهم إلى ما أسماه ''الحياد الإيجابي''، الذي نضج بعد ذلك بتأسيس جبهة التحرير الوطني التي فجّرت الثورة في بداية نوفمبر من السنة نفسها·
رسالة موجهة من قبل أحمد مهساس، باريس فرنسا، في ماي عام 1954
عند احتدام الصراع بين مصالي وقيادة الحزب، اخترنا أن نمسك العصا من الوسط، وذلك انطلاقا من التزامنا بالتعبير عن وجهة نظر المناضلين، وبالتالي محاولة تحقيق أهدافهم الفعلية· فبالانعزال عن دائرة الخلاف وأسباب نشوب الأزمة، يشكل مناضلو الحزب وبامتياز عاملا مهما للاستقرار والوساطة، كما أن مواقفهم تعبّر عن حيادية وثبات تأمين، الأمر الذي يجعلهم يحملون على عاتقهم مسؤولية الحفاظ على وحدة الحزب، خاصة وأنهم يرفضون الانحياز لأي من الطرفين، وهو ما يعني انقسام الحزب وتمزقه ·
فلم يولد خيار ''الحياد الإيجابي''، الذي يعبّر عن إرادة كافة المناضلين، إلا من رحم الصراع الناشب بين الطرفين المختلفين والمتناحرين، وهو الخيار نفسه الذي يعمل على توعية المناضلين ويدعوهم إلى فهم وإدراك مهمتهم بصفتهم ناشطين ومسؤولين داخل الحزب، وليس مجرد منفذين تحت رحمة الدسائس والمؤامرات·
وبهذا بدأنا في محاولة تشخيص الأسباب الفعلية التي أدت إلى نشوب الأزمة دون الاكتراث إلى المسائل الشخصية، وكذا الأمور الظاهرية بغية الوصول إلى الحل الأفضل والقضاء على الداء من مصدره· إلا أننا نواجه مشكلة عويصة تتعلق بأزمة نمو الحزب الذي تجاوزته الأحداث؛ ففي نظر الشعب صار الحزب غير قادر على تسيير كافة الطاقات والقيام بدوره القيادي والتنظيمي· أما في داخل الحزب، فلم يعد القادة في مستوى مسؤولياتهم، وكثيرا ما يضعفون قوة الحزب بتصرفاتهم الرعناء والارتجالية·
فالأمر إذاً يتعلق بأزمة قيادة حزبية فاعلة تجاه الشعب وأزمة مسؤولين أكفاء تجاه المناضلين داخل الحزب·
ومن الملاحظ كذلك أن الانتقادات اللاذعة المتبادلة بين أنصار مصالي الحاج والقيادة المركزية في الحزب لا تركز إلا على الأمور الثانوية وتتناسى الأسباب الرئيسية التي كانت أصلا في الخلاف· وعليه، فإنه يتوجب على المناضلين في الحزب تحديد المسؤوليات، وكذا معرفة الخلفيات الحقيقية للأزمة، فينبغي علينا أن نتناول تطور الأزمة وأن ندع الشد والجذب·
لقد منحت قرارات اللجنة المركزية مصالي الحاج، في آخر اجتماع لها، سلطة محدودة كما منحته الضوء الأخضر لعقد مؤتمر استثنائي للحزب، وهو القرار اعتقدنا للوهلة الأولى أنه حكيم، انطلاقا من إيماننا بأنه سينهي الصراع، وبالتالي إمكانية تجنب الانقسامات والتمزق داخل الحزب، وهو ما ركزت عليه اللجنة المركزية ·
إلا أن هذه القرارات سرعان ما أبانت عن سلبيات كثيرة خاصة وأننا لمسنا إشارات غير مطمئنة:
- فقد تمت عملية تسليم السلطة في نطاق مقيد ولم تكن الأمور لتبشر بخير في الأفق·
- كما أن جل الإطارات الناقمة على أنصار مصالي الحاج جراء تمسكهم بالمواقف المتصلبة لقيادة الحزب جعلتهم يطالبون بالإحالة على الاستيداع، وبالفعل فقد كانت النتيجة هي الفوضى لتتطور الأحداث وتتحوّل إلى انقسام بين إطارات الحزب إلى قسمين:
- قسم احتوى مناصري مصالي الحاج الذين يمثلون سلطة الحزب الجديدة·
- وقسم آخر احتوى القادة والإطارات الذين لم يقتنعوا بسياسة مصالي، وهو ما أدى بهم إلى عدم تعاونهم معه ومع مناصريه·
وهكذا نكون قد ابتعدنا عن كنه القرارات التي تم التصويت عليها من قبل اللجنة المركزية التي طالما نصحت المناضلين بالبقاء في الحزب حفاظا على وحدته·
إن مثل هذه النزاعات والانشقاقات تأكد لنا اليوم بأن قرارات اللجنة المركزية لم تتخذ بناء على قناعات واعتبارات أساسها المصلحة العامة للحزب، فهي لا تعدو أن تكون حيلة تمكن من الانتقال من السلطة التي صارت مستحيلة إلى المعارضة المريحة، وهي لم تكن في الأساس إلا رد فعل منطقي للخطة التي انتهجها مصالي الحاج· وبقي لنا أن نعرف الآن مدى نجاعة هذه الأساليب الملتوية في حل مشاكل الحزب الكبيرة والمعقدة وسيحكم المناضلون على ذلك بالتأكيد ·
لا شك أن الوضع يسوء أكثـر وهو يزداد خطورة، والأمر لا يعدو أن يكون تبادلا للأدوار فقط؛ فقد تحولت المعارضة إلى سلطة والسلطة إلى معارضة، كما أن مخاطر الانقسام باتت جلية لأننا لا زلنا نشهد الصراع بين الطرفين المتنازعين: فمن جهة نجد مصالي وأنصاره الذين تسلموا السلطة، ومن جهة أخرى نجد المسؤولين والكوادر الذين يتوجسون من شبح الإقصاء، وهم يشرعون في القيام بمعارضة نشطة من شأنها أن تشكل خطرا كبيرا على وحدة الحزب·
وإن كانت انشغالات الأخوة -في الحزب- مشروعة وفي محلها، فهل هناك من سبيل يمكن من الحصول على ضمانات تحمي من الاستبداد داخل الحرب؟ فلطالما أثبتت التجارب أن الكلمات والوعود لم تحافظ على قيمتها كما أن النوايا كثيرا ما تتبدل مع مرور الوقت، وهو ما نخشاه بقدر ما نعيشه من ضغائن مؤلمة· فكثيرا ما عبرنا عن استيائنا من الطريقة التي وصل بهام مناصرو مصالي إلى السلطة في الحزب، الأمر الذي اعتبرناه سابقة خطيرة· ولكن هذا لا يعطينا الحق أبدا في أن نستخدم الأسلحة نفسها التي نعلم تمام العلم أنها لا تخدم بأي شكل قضيتنا الوطنية· فإذا عول كل فريق من الناقمين والمعارضين على أساليب ملتوية كهذه، فهذا يعني أننا لن نخرج أبدا من الدوامة المتجسدة في المواقف السلبية المعلنة هنا وهناك· وعليه، فإنه يتوجب علينا أن نعمل جاهدين انطلاقا من مبدأ وحدة الصف التي تمثل موقف المناضلين والمسؤولين لإيجاد سبل وآفاق أخرى· وإن كنا متفقين من حيث المبدأ على عقد مؤتمر للحزب، فهذا يحتم علينا أن نترك كل السلوكيات غير المسؤولة التي يتولد عنها انعدام الثقة التي تحد بدورها من فرص عقد مؤتمر بناء، لأن انعقاد مؤتمر لا يعني بالضرورة الوصول إلى أمور إيجابية، خاصة إن كان هذا الأخير يكرس فكرة الانقسام· ولهذا فإننا نعتقد بأن ما قامت به اللجنة الثورية (CRUA ) ساهم في توسيع هالة الانقسام، فرفضها للسلطة الجديدة يعني استخلافها للقيادة المنسحبة· لقد استنكرنا الإجراءات المتخذة من قبل مناصري مصالي الحاج، وحرصا منا على التزام الحياد فلا يمكننا سوى أن نرفض ما بدر منهم· كما أن موقفنا هذا يرفع عنا الغموض ويخلي مسؤوليتنا، إضافة إلى أن اللجنة الثورية تقاسمنا الأهداف نفسها:
- مؤتمر، وحدة، الدفاع عن المناضلين··· مع الاختلاف الواضح مع المصاليين··
إننا متيقنون من قدرة المناضلين والمسؤولين المحليين بحيادهم واستقلاليتهم على إنقاذ وحدة الحزب وتمكنهم من إرجاعه إلى سكة القضية الوطنية، لأن الانحياز إلى فريق أو آخر يعني خلق كتلتين متنازعتين ستتواجهان لا محالة، ولعل أن الموقف الأكثر إيجابية هو ذلك الذي عبّر عنه المناضلون والمسؤولون المحليون الذين لم ينساقوا وراء أي من الموقفين السلبيين، وهم بالتالي قادرون على ضمان الوحدة من خلال:
- اتخاذهم لموقف يعبّر عن مصالح الطرفين المتنازعين في آن واحد·
- تهيئة الجو لعقد مؤتمر للمناضلين·
- المبادرة بعقد مؤتمر وطني للمناضلين·
إذ سيتشكل هذا الأخير من ممثلين منتخبين مكلفين مباشرة من قبل مجالس ولائية منتخبة بدورها من قبل مندوبين عن القاعدة، وسيشكل كذلك ضمانا للحيادية بالنسبة للمناضلين والمسؤولين الذين يتقاسمون نفس الهموم والانشغالات· كما سنعمد خلال هذا المؤتمر على ضمان الوحدة في صفوف الحزب، وبالتالي ضمان استمراريته، وذلك بتغليب المصلحة العامة التي ستقضي على كل الخلافات التي يريد البعض استغلالها خدمة لمصالحهم الضيقة· وهكذا سنعمل على اتخاذ القرارات التي من شأنها أن تدعم وتحافظ على استقرار الحزب· وسندرس بمعية السلطة الحالية في الحزب -خلال المؤتمر- كافة السبل التي تمكن من تمثيل جميع الاتجاهات والتيارات التي ظهرت على خلفية الأزمة، وهو ما يحتم عليه أن يكون مؤتمرا تمثيليا بأتم معنى الكلمة، وهذا تماشيا مع إرادة المناضلين في الحزب· وبهذا ستثمر جهود المؤتمر لا محالة بحيث سيمكن من اتخاذ قرارات سيدة تأتي في صالح المصلحة العامة للحزب·
ترجمة: حنيفي مصطقى
-----------------------------------------------------------------------------------
المناضل أحمد مهساس:
هذه هي حقيقة الصراع بين المناضلين قبيل الثورة
في هذا الحوار، يعود بنا المناضل أحمد مهساس، إلى جذور الصراع داخل حزب الشعب - حركة انتصار الحريات الديمقراطية والانشقاق الكبير الذي وقع، من خلال الرسالة - الوثيقة التي حررها في ماي 1954، ويعود مهساس إلى الظروف العامة والخاصة التي كُتبت في سياقها· إنها شهادة جديدة عن نشأة الثورة التحريرية انطلاقا من خيار ''الحياد الإيجابي'' الذي أنشئت في كنفه جبهة التحرير مفجرة ثورة نوفمبر·
حاوره: الخير شوار
هل يمكن أن تعيدنا إلى السياق الزمني الذي كتبت فيه الرسالة المؤرخة في ماي 1954 قبيل انطلاق الثورة التحريرية؟
كنت حينها عضوا في اللجنة المركزية، لحركة انتصار الحريات الديمقراطية، والحديث عن الرسالة التي كتبتها لمناضلي الحزب في ماي
1954 تعيدني إلى ما وقع للمنظمة الخاصة (os ) التي انكشف أمرها سنة ,1950 وتم القبض عليّ في آخر قائمة المطلوبين ولم يعتقل بعدي إلا أحمد بن بلة·
بالمناسبة لك تصريح تقول فيه إنه من حسن الحظ أن يكون بن بلة آخر المقبوض عليهم، بدليل أنه اعترف بكل شيء وبالتفصيل؟
كنت أقصد أننا اشتغلنا معا في ذلك الوقت، وأن الذي يشتغل معه يعرض نفسه دوما لخطر كبير· أذكر أيضا أن محمد بوضياف ''عملها بينا''، وعندما أرسلناه إلى الجزائر في مهمة أراد الاستيلاء على الثورة لوحده، وكان بصدد تكسير فكرة التيار الجديد الذي انتهجناه غداة أزمة الحزب وانقسامه إلى مصاليين ومركزيين·
وكيف اختلفتم مع بوضياف؟
بعثناه من فرنسا حينها من أجل القيام بالتنسيق في ''الداخل''، أما التسيير فقد اتفقنا على أنه للجميع، لكنه خرج عن هذا الاتفاق· والقضية كلها بدأت عندما هربنا من السجن بالبليدة سنة ,1952 عندما بدأت أزمة الحزب كنا في السجن، وأنا أعتبر ما حدث في تبسة من كشف المنظمة الخاصة هو البداية الحقيقية لأزمة الحزب، والخلاف الحقيقي بين قيادات الحزب بدأ منذ تلك اللحظة· وفي اجتماع اللجنة المركزية سنة 1951 أسفر عن عزل بعض المسؤولين، كما أسفر عنه أيضا قرار خطير هو حل هيئة ''المنظمة الخاصة''، كنت في السجن فطلبت منهم أنا وبن بلة مساعدتنا على الهروب، فرفضوا ذلك، وأنا أملك أدلة على هذا الرفض، وبعض من حاول مساعدتنا تم تهديدهم حتى بالفصل من الحزب، لقد تركونا لمصيرنا· وكان حينها الكثير من المناضلين يلتحقون بنا في السجن من الذين ينظموا مظاهرات، فنتبادل معهم أطراف الحديث ويخبرونا بالوضعية التي أصبح عليها الحزب، وعندها نسقنا معهم من أجل الهروب من السجن، وكان أحد المناضلين الذين معنا، سبق له وأن شارك في مظاهرات بالبليدة، وهو الصافي بوديسة -رحمه الله- كان قد سلمني آلة حديدية تمكن من تسريبها وكنا نعد للهرب، إضافة إلى ثلاثة مناضلين آخرين كلهم يحملون اسم مصطفى، أحدهم اسمه مصطفى السطايفي -رحمه الله- وقد استشهد سنة ,1957 والثاني كنا نسميه مصطفى ''أرابو آزياتيك'' (عربي- آسياوي)، والثالث كنا نناديه مصطفى طاكسي، وكان يمتلك سيارة طاكسي، وكان من بينهم مصطفى السطايفي داخل السجن، هذا هو الفريق الذي بدأنا من خلاله العمل على الهروب من السجن·
نريد أن نسمع روايتك حول الهروب، كيف تمكنتم من تسلق الحائط العالي جدا؟
كان الأمر يتعلق بحائطين إثنين· اخترنا مناسبة 16 مارس، وهو عيد ميلاد مصالي الحاج، وكنا متعودين على تنظيم احتفالات من هذا النوع، وعملنا صخبا كبيرا ظاهره كان يتعلق بالاحتفال والمراد منه التغطية على صوت الحديد الذي كنا نستعمله من أجل إيجاد مخرج، ولأن الأمر يتعلق بحائطين فإن المطلوب هو التخطيط بدقة متناهية، منها اختيار الوقت المناسب ثم الصعود إلى الحائط الأول الذي كان أقل علوا من الثاني، وفي الرحلة الأخيرة كانت لي بعض الصعوبات، على عكس المراحل الأولى التي ساعدت فيها بن بلة للعبور من مكان إلى آخر، وكان خائفا في البداية من تسلق الجدار الأول معتقدا أنه مكهرب، وبعد صعوبات تمكنت أخيرا من تجاوز الجدار الثاني وكانت الجماعة في انتظارنا وبسرعة ذهبنا إلى بيت مصطفى آرابو آزياتيك في مرتفعات البليدة، والتقينا ساعتها المناضل محمد عبد العزيز -رحمه الله- وكان قد توفي منذ مدة قصيرة وكان مسؤولا جهويا في الأغواط في المنظمة السرية، لقد كان فرحا جدا في المرة الأولى التي التقيناه فيها، لكنه في اللقاء الثاني بدا أقل حماسا واتضح أن إدارة الحزب وبخته على الاتصال بنا، وفي كل مرة يسوفون ويتهربون من مساعدتنا وبقينا على هذا الحال مدة شهرين تقريبا، ومن هنا نشأت الأزمة بيننا وبين إدارة الحزب واضطررت بعدها للتنقل إلى الجزائر العاصمة حتى أتمكن من الاتصال بالإدارة نفسها·
وكيف تطور الأمر إلى أن تنقلتم إلى فرنسا؟
تنقلت أولا إلى الجزائر العاصمة وطلبت لقاء إدارة الحزب من أعضاء المكتب السياسي مثل حسين لحول··· وغيره، وبقيت مدة أربعين يوما تقريبا وأنا في الانتظار، وكان المأوى في العاصمة ضيقا وليس لي خيار آخر إلى أن جاءني حسين لحول وأحمد بودة في حالة من التكبر، وكنت أحدثهم عن وجهة نظرنا في أزمة المنظمة السرية، وقلت لهم إن سبب انكشاف أمر المنظمة هو سياسي بالدرجة الأولى، وأن هناك جملة من الأخطاء السياسية أدت إلى تلك المشكلة، وكانوا يقولون بأن السبب فني، وتكلمت أيضا أن فكرة اللامركزية التي كان يجب أن تسود في تسيير الحزب وضرورة ألا يتجمع كبار المسؤولين في مكان واحد ثم ضرورة توسيع دائرة الاتصالات الخارجية، خاصة في المغرب وليبيا ومصر، لأن تونس حينها كانت تحت السيطرة الفرنسية، وحتى أن ليبيا كان فيه الاستعمار·
كيف وليبيا توحدت سنة 1951 بقيادة الملك إدريس السنوسي؟
مع ذلك كانت تحت سيطرة فرنسا وبريطانيا وأمريكا بحكم انتصارهم في الحرب العالمية الثانية ضد إيطاليا· ورغم وجود قواعد عسكرية غربية هناك، إلا أن علاقتنا مع الملك السنوسي كانت جيدة بحكم أن الملك من أصول جزائرية·
لنعد إلى موضوعنا، إلى النقاش مع لحول وبودة؟
نعم، قال لي أحمد بودة حينها إن حماسة الشباب تؤثّر عليّ، لكن جاء الوقت الذي كان فيه بودة خارجا من الجزائر في اتجاه الشرق ومرّ على تونس وكنت مسؤولا على تلك الجهة، فذكّرته بما قال لي قبلها وشرعنا في الضحك·
إلتقيت أحمد بودة وحسين لحول ولم يكن اللقاء كما تمنيت، ماذا حدث بعدها؟
لقد اتخذوا قرارا سنة 1951 ضد تيارنا الذي كان يوصف بالمتطرف، كان بن خدة ولحول وغيرهما يصنفون ضمن الأنتلجاسيا التي كانت مؤهلة للتعامل مع الاستعمار أما نحن فلم نكن في نظرهم نستحق إلا القمع والنكران· وبقي الصراع على هذا النحو، اقترحوا علينا التنقل إلى الشرق فرفضنا، وبعد ذلك عرفت أن مناضلي منطقة القبائل كانوا على استعداد لاستقبالنا، غير أن القيادة لم تعلمنا بذلك· واضطررت بعد اتصالات مع مسؤولي الحزب أن أتنقل من حسين داي إلى أعالي بوزريعة مشيا ووصلت هناك في المساء وبقيت مختفيا في المنطقة إلى أن حل الليل، فدخلت إلى البيت، وأذكر أن والدتي -رحمها الله- أصيبت بدهشة ومفاجأة وبقيت تسعة أشهر كاملة في بيتنا هناك·
وماذا حدث بعد ذلك؟
بعد تلك المدة من البقاء في العزلة، أخذت قرارا بالذهاب إلى ''Place de Chartres '' (منطقة سوق عمار القامة حاليا) بوسط العاصمة حيث كان مركز الحزب هناك، نهضت باكرا وأخذت معي السلاح واتجهت إلى المقر حتى أصل إلى هناك في أقرب وقت، كنت خائفا حينها لأن مسؤولي المكتب يتعاملون بعنف مع كل من يخرج عن الأطر هناك، فقلت في نفسي ''اليوم تفرا'' ولن أدعهم يعتدون عليّ جسديا، ولما وصلت إلى المقر وجدت مناضلا كان يكتب على آلة ''الداكتيلو'' ويحرس المقر في الوقت نفسه وكانت مفاجأة كبيرة جدا عندما رآني هنا·
كنت هاربا من السجن، ألم تخش من توقيفك في بعض الحواجز خاصة وكنت تحمل سلاحا في ثيابك؟
لم يكن أحد يمكن أن يتعرّف عليّ، كان شكلي يتغيّر مع كل مرحلة، وكانوا يمتلكون صورتي عندما كنت صغيرا·
وماذا بعد أن دخلت إلى المكتب؟
بقيت هناك، وبدأت أحتج وأقول: انتهى المسؤول وانتهى المناضل التائب· وكنت متأكدا بأن لجنة تزوير الوثائق موجودة على عكس ما كانوا يدّعون، وعندما بدأوا في التهديد أخرجت لهم المسدس، فجاء جميع القادة الموجودين مثل حسين لحول وأحمد بودة··· وغيرهما، وقلت لهم إنني لن أرحل حتى تتحقق مطالبي، فإن كنت مناضلا حقا فلي حقوقي وإلا فليخبروني بعكس ذلك وليخبروني بأني لست مناضلا وساعتها سأنسحب من الحزب في صمت، لقد حدثت فوضى كبيرة داخل المقر، وتجرأت على رفع السلاح في وجه مسؤولي الحزب· وعندما رأيت الوقت يمر وبقيت هناك من الثامنة صباحا حتى حوالي الثالثة مساء، جاءني حسين لحول ووعدني بأنه في غضون خمسة أيام سأتسلم الوثائق التي طلبتها وكنت أحترمه كثيرا، وقلت لهم بأني أثق فيهم لكني سأعود إن لم ينفذوا وعدهم، ومن حسن حظي فعند خروجي لم أجد أحد ينتظرني من الفرقة المخصصة للاعتداء على المشاغبين، واتجهت من جديد إلى بوزريعة مرورا بسوق شارتر المزدحم، وبقيت مختفيا في الوادي إلى أن حل الليل ودخلت البيت·
وهل كان حسين لحول عند وعده؟
عندها اتصلت بأحمد بن بلة، وانتقلنا إلى البليدة، وكانت قيادة الحزب عندما تختلف مع أحد لا تعاقبه في الحين، وأذكر أن بن يوسف بن خدة تنقل إلى بيتنا في بوزريعة وتجدد العرض بنقلنا إلى الشرق وتمسكنا بالرفض·
وهل تحققت مطالبك بالحصول على الوثائق في الوقت المطلوب؟
إنتهت مهلة الخمسة أيام ولم يتحقق شيئا من وعودهم، لكني كنت مرنا وأعطيتهم وقتا آخر، ولم يكن لنا أي خيار إلا أن نمارس الإرهاب داخل الحزب (يضحك)، وبعد سلسلة من المفاوضات اقتنعت بأن ينتقل أحمد بن بلة إلى القاهرة فيما أذهب أنا إلى باريس على أن أسافر أنا أولا، وكان معي المناضل عبد الله فيلالي، وكان من القلائل الذين نثق فيه من قيادة الحزب وكنا كشباب حينها نحبه كثيرا وكان معنا ابن أخ أحمد بودة، وانتقلنا في باخرة إلى فرنسا بوثائق مزوّرة طبعا·
كنت ''حراقا''؟
(يضحك) كنت أكثر من ''حراق''، وعندما وصلت إلى باريس حل فصل البرد ولم يكن لي اللباس الكافي، وأذكر أني كنت أمتلك بدلة نظيفة فقط كان قد أعارني إياها الصافي بوديسة -رحمه الله- أما الشخص الذي نقلني إلى هناك فلم أره بعدها وكانت مهمته تنحصر في نقلي إلى ذلك المكان وكنت فقط على اتصال بامحمد يزيد وكنت أقول له بأني أكاد أموت بالبرد، لكنه لم يأت إليّ، وحينها ذهبت إلى فندق المشرق الذي لم يعد له الآن وجود وأخذت مكانا وبقيت هناك ورفضت أن أخرج وأنا أحاول التغلب على البرد بأي طريقة·
الآن نعود إلى حكاية محمد بوضياف، كيف كان دوره في باريس في ذلك الوقت وكيف عاد إلى الجزائر؟
عندما استقرينا في باريس وأصبحت لنا مكانة واحترام في الحزب هناك، كان محمد بوضياف مبعوث بصفة رسمية كمسؤول للتنظيم في فدرالية فرنسا على عكسي أنا الذي كنت هناك بصفة غير رسمية وتحت الرقابة، وحينها بدأت الاتصال بشاب كان طالبا في الصحافة حينها وكان يتعاون مع مجلة ''إيسبري'' في فرنسا، وكان يأخذني لأنام معه في مكان واحد ثم يعيدني في الغد، ثم تنقلت إلى السكن السري لبوضياف، وكانت مشكلتي معهم أنه عندما قرروا نقلي إلى فرنسا لم تكن لي مهمة محددة، وبعدها ألحقوني بلجنة الصحافة التي كان خطر الرقابة الفرنسية يهددها، وأذكر مرة أني كنت في زي متنكر ودخلت إلى أحد الأمكنة، فجاءتني امرأة وطلبت مني المغادرة فورا، ودون أي حركة غادرت المكان على الفور ولو عملت مشكلة كنت موقوفا وافتضح أمري· وكان بن بلة قد تنقل إلى القاهرة وبدأ الاتصال مع القيادة هناك مع تحفظي على الأمر، وبعدها تأسست اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وكان من أعضائها إثنان كانا يعملان لصالح المركزيين، وحينها بدأت الأزمة الفعلية في الحزب، وكنت معارضا لتلك اللجنة، وكان المركزيون لا يذكرون الثورة إلا عند الصراع ضد مصالي الحاج، وكنت قد كتبت رسالة في شكل نداء للحرب وقلت بأننا مستعدون لعملية إيجابية ستغير مصير البلاد، فاضطروا لعزل المناضلين دخلي بشير وبوشبوبة رمضان المحسوبين على المركزيين، وحينها ساءت علاقتي بمحمد بوضياف لأني أبطلت خطته، ومن الأول كان لي يقين راسخ هو ضرورة الذهاب إلى طريق ثالث يتجاوز ثنائية المركزيين والمصاليين· وأعود إلى وضعنا في سجن البلدية عندما أخبرني بن بلة بنشأة الصراع داخل الحزب وطلب مشاورتي فما نعمل، فاقترح عليّ أن نتصل بممشاوي ابن أخت مصالي الحاج، وقلت له: علينا ألا نتحيز لأي طرف ومازال أمامنا الوقت والفرصة لإعادة الوحدة إلى الحزب· وعندما تفاقمت الأزمة داخل الحزب سجلت جملة من النقاط وعندما يسألني أي مناضل عن موقفي أسردها عليه، ومن بين هذه النقاط أن الموقف يجب أن يكون متوازنا، وعلى خط ثوري ولا يتحيز لأي طرف إلا تحيزه للثورة· وكان بن بلة غير متفائل بالعمل الثوري كما حدث بعد ذلك·
صرّح بن بلة بأنه من خطط للثورة، وأنه من نفذ سرقة بريد وهران، حيث اشترى السلاح الذي خزّن في أريس واستعمل في الثورة بداية من ليلة أول نوفمبر؟
هذا الأمر مبالغ فيه، السلاح الذي استخدم في بداية الثورة جمعه المناضلون وجزء منه اشتراه المناضل محمد العصامي، وهو من كوّن المناضلين من أمثال مصطفى بن بولعيد والعربي بن مهيدي·· وغيرهما، وهو من بسكرة وكانت دائرة بسكرة طليعية في العمل الثوري، وكان يدافع عني في الاجتماعات عندما كنت أتعرّض للانتقادات وحتى للشتائم·
لنعد إلى أزمة الحزب، ماذا عملتم عند نشوب الانشقاق الكبير؟
كنت أعمل على وحدة الحزب بشتى السبل، هنا هناك مصاليون ومركزيون والبعض الآخر كان يشكل التيار الجديد، لكن أعضاء الفريق الثالث انعزلوا خوفا من مصير مجهول للحزب· وبخصوص الرسالة الأولى التي كتبتها لم أمضها أنا بل الذي فعل ذلك هو راجف بلقاسم -رحمه الله- الذي كانت له مواقف مشرفة وكبيرة أثناء الفتنة البربرية وغيرها، وكان معروفا عند الناس، لذلك وقع عليه الاختيار للإمضاء على تلك الورقة التي كانت تهدف إلى وحدة المناضلين، ولم أكن أنا معروفا بالقدر الكافي، لأن يسمع مختلف الفرقاء من القيادات كلامي· كان بوضياف في فرنسا مكلفا بالتنظيم في الحزب، لكن الحزب انفجر، ووقعت اشتباكات بين المناضلين ولم يكن أحد يجرؤ على محاربة مصالي في فرنسا، وتعرّض بوضياف لمضايقات واعتداءات من قبل المناضلين المتشيعين لمصالي، فقلت له إن مشاكل الأشخاص لا تهمنا وأن هدفنا من الحزب هو العمل الثوري، يجب أن نبقى على حياد وهو الحياد الإيجابي الذي على ضوئه حررت الرسالة المؤرخة في ماي .1954
تعليقات