التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عبد العزيز غرمول: روائي "أكلته" السياسة

لا يمكن للذي عرف عبد العزيز غرمول قاصا وروائيا متميزا في سياقه أن يسمعه خارج هذا الإطار يحلل في بلاتوهات بعض الفضائيات أو يخطب في جمع من الناس بغة عاطفية تقترب من الهم اليومي، مثلما يفعل السياسيون.


الخير شوار
يبدو الأمر أقرب إلى المشهد الروائي العبثي أو "الواقعي السحري" تماما كما قرأناه في رواياته "مقامة ليلية" و"عام 11 سبتمبر" و"زعيم الأقلية الساحقة". هو الروائي الذي "أكلته" السياسة مثلما "أكلت" بآلتها العمياء الكثير من الأحلام التي تحوّلت إلى كوابيس.
حدث كل هذا في "عام 11 سبتمبر" الذي مازال متواصلا منذ تلك اللحظة "الهولويودية" التي اصطدمت فيها طائران ببرجين في نيويورك.  
لقد احتاجت البشرية لدخول هذا العصر الجديد، بعض الطائرات المملوءة بالركاب المدنيين وبرجين كانا في الأصل مخصصين للتجارة العالمية ومشهد ناري من وحي هوليود، وكان ذلك يوم 11 سبتمبر من تلك السنة التي أعقبت سنة الألفية الجديدة التي سيسميها فيما بعد الروائي عبد العزيز غرمول "عام 11 سبتمبر"، على وزن "عام التيفوس" و"عام الرمادة"، و"وعام الجراد"، وكل الأعوام التي تحمل معها الكوارث مثلما حمله "عام 11 سبتمبر". ولئن دخلت البشرية بالفعل عصرا جديدا مباشرة بعد تلك اللحظة وشهد العالم سلسلة غير منتهية من الحروب والقتل الجماعي، فإن المفارقة تكمن في نمط الكتابة الذي أصبح سائدا في "عصر 11 سبتمبر"، وعبد العزيز غرمول مثلا الذي عرف "كاتب أساطير" و"صانع أساطير" على حد قوله، وقد أبدع في إعادة صياغة أسطورة قريته "بني فضة" وكل توابعها من لا لا فضة وجبل مجونس وغيرها في مجموعتيه القصصيتين "رسول المطر"، و"سماء الجزائر البيضاء"، وروايته الأولى "مقامة ليلية"، كانت لغته حالمة في مجمل أعماله الأولى، لكن تغيرا أصابه بعد ذلك وكأن شظية من برجي التجارة الدولية في منهاتن أصابته، لتأخذ كتابته بعد ذلك منحى "سبتمبريا"، بدءا بروايته "زعيم الأقلية الساحقة" التي تتناول الدكتاتورية والبترياركية القاتلة لكل حياة، وكل كل أسطورتها لتبقى وحدها الأسطورة العقيمة المعقمة لكل حياة، ثم رواية "عام 11 سبتمبر" التي تؤرخ للدم انطلاقا من جزائر التسعينيات وصولا إلى أمريكا القرن الجديد، قرن 11 سبتمبر، ولم يتوقف حدث 11 سبتمبر عند ذلك الحد، فغرمول الذي انطلق من جزائر التسعينيات في رواية "عام 11 سبتمبر"، عاد إليها مجددا في نصه السردي الطويل "فضة لمساء بختي" ويستعيد فيه ذكرى الكاتب بختي بن عودة الذي اغتيل بطريقة بشعة منتصف تسعينيات القرن العشرين، والمفارقة أن غرمول عندما عاد إلى أساطيره الأولى، تناولها بطريقة دموية سبتمبرية، ونصه الذي كتبه عن وهران عنوانه "سطوع وهران الأليم"، وقد أصبحت الأسطورة مؤلمة كالواقع السبتمري الرهيب، الذي تحولت فيه الأساطير إلى وقائع رعب متواصلة، تماما مثل أفلام الخيال العلمي الهوليودي، وما غرمول في النهاية (في كتاباته الجديدة) إلا كاتبا من عصر 11 سبتمبر.
هي المفارقة التي لم تجنح بغرمول فقط إلى الكتابة السياسية "الحادة" من خلال مقالاته التي داوم على نشرها في الصحافة الورقية ثم الالكترونية لاحقا، ولم تتوقف عند الهم السياسي المباشر الذي ظهر جليا في روايتيه (زعيم الأقلية الساحقة، وعام 11 سبتمبر) وإنما تعدته لأن يؤسس له حزبا في ظل الأجواء التي أعقبت "الربيع" الذي جاء بعد عشرية من "عام 11 سبتمبر"، الذي يكاد يكون موجة ثانية له، والتباشير التي جاء بها أولا حوّلته إلى فصل مختلف قد يكون خريفا يأتي تكاد رياحه تأتي على الأوراق المتناثرة لتترك الأشجار عارية كحقيقتنا، وقد يكون شتاء تكاد تقتلع أعاصيره الأشجار وحتى الديار. وفي هذه الأجواء التي لا يكاد فيها المرء يصدّق نفسه والذي فقدت فيه كل الأشياء معانيها، أصبح السياسي متهما من قبل المواطن العادي بـ"المتاجرة" بمعاناته، ولا يعرف إلا لغة الاحتجاج التي من شأنها رفع راتبه أو تحقيق منافع أخرى مباشرة، يحاول غرمول تقمص شخصية السياسي المحترف، وربما كان يعتقد أن بإمكانه إعادة النبل إلى السياسة، لكن لا أحد يكاد يسمعه كأن تصريحاته السياسية التي يطلقها في قاعات تجمعاته السياسية وفي بلاتوهات القنوات التلفزية الفضائية مجرد صيحات في واد. وربما كان غرمول في كل هذا يحاول كتابة رواية أخرى مختلفة تماما عن كل ما سبقها، لقد قال يوما: "حلمي هو صناعة المزيد من الأحلام لتغذية الناس. نحن الأمة الأقل أحلاما بين الأمم، أصبحنا نكتفي بإدارة اليومي والراهن ونبحث في قمامة التاريخ عما نعتاش عليه، إنها مأساة لا تقل فداحة عن مأساة الإرهاب، وسيكون ضحاياها أجيالا وأجيالا. أعتقد أن تأجيج الأحلام ضرورة ملحة للارتقاء بحياة الناس وتشجيع طموحهم في تبني الأفضل والدفاع عنه. وأنا ككل بحاثة في فضائل وأحلام البشر أعمل على تنويع وإجادة عملي، لذلك أنا مضطر إلى التنويع والتنقل بين الأزمنة والأمكنة"، فربما كان العمل السياسي حلما يصنعه غرمول من أجل تحقيق أسطورة مثل الأساطير التي أبدع في كتابتها في "رسول المطر" وصولا إلى نص أدبي أعمق من تلك التي كتبها سابقا. وبعيدا عن لغة الحلم فإن الواقع يقول إن غرمول كاتب جميل سرقته السياسة ونخشى أن تحوله إلى مجرد شخصية من تلك الشخصيات التي رسم ملامحها بكثير من الجمال. 

الملحق الثقافي "ديوان الحياة"- يومية "الحياة" الجزائرية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة