"بسرعة" يتجاوز الشاعر بوزيد حرز الله
نفسه، ليضع تجربته الشعرية أمام تحد جديد يلخصه في عبارة "انتهيت إليك"،
العنوان المبدئي لمجموعته الجديد الجاهزة للنشر عن دار العين القاهرية.
الخير شوار
ولأن بوزيد شاعر قلق، فقد يقدم على تغيير العنوان
ليصدر في صيغة أخرى، وفي كل الأحوال، فإن العبارة بقدر بساطتها "الظاهرية"
تحيل إلى عمق صوفي، وربما الانتهاءالوارد في الجملة لا يوحي بالنهاية بقدر ما يؤكد
على المنتهى، وهي القمة التي يريدها أي مبدع ليجد نفسه مخيّرا بين هاوية سحيقة وبين
قمة أخرى في جدلية لا تنتهي إلا بانتها التجربة الحياتية كلها.
لقد طوى الشاعر بوزيد حرز الله المسافات، وتجاوز
تجاربه السابقة التي انطلقت من الكلاسيكية، لتدخل رحاب التجريب من أبواب متعددة، وفقدت
القصيدة عنده اليقينيات القديمة من إيقاع وطول، لتعانق القلق النثري.
وليس سهلا على شاعر نشأ داخل الشكل الكلاسيكي للقصيدة،
بارع في الاوزان الخليلية وعارف بأسرار اللغة أن ينفلت من سياجها، لكن بوزيد نجح في
ذلك وخلع عنه ثوب القدامة، ليحتضن قلق التجريب في كل مرة، وكم بدت صعبة تجرية
"بسرعة أكثر من الموت" على التجاوز، التي صدر في طبعة مشرقية وأخرى جزائرية،
منذ مدة ليست بالطويلة، لكنها أصبحت في حكم التراكم الإبداعي لبوزيد الذي عاش جنون
التجربة من عقود عديدة وعاصرا أجيالا من الشعراء وتجدد مع كل مرة.
وقبل اكتشاف التجربة الجديدة لبوزيد (انتهيت إليك)،
نحاول التخفيف في وطأة السرعة التي تميز هذا العصر، لنعيد قراءة "بسرعة أكثر من
الموت" قبل أن يطوي صفحاتها الإصدار الجديد. فمع أن "الشيطان يسكن في التفاصيل"
كما يقال، إلا أن هذه التجربة تحاول إيهام القارئ أنها تخلصت منها، لكلها لم تتخلص
- في الواقع- إلا من تفاصيل الشكل الخارجي، وكانت أولى الثورات "الشكلية"
على قالب الشعر وعموده، وهي الثورة الواعية بحكم أن بوزيد حرز الله واحد من أهم الشعراء
المتحكمين في الشكل الكلاسيكي، ومع أن "الثورة" بدأت ضمنية منذ بداية المتن،
إلا أنه أعلنها صراحة بعد ذلك في المقطع "المهدى" إلى "الخليل بن أحمد
الفراهيدي" (حارس القوالب الشعرية الكلاسيكية) وهو يقول له: "اختصارا للكلام-
الشعر- يريد- إسقاط- النظام".
لقد تمكن بوزيد بالفعل من "إسقاط نظام الفراهيدي"
الذي سجن داخله الشعراء قرونا طويلة ولم يسلم من "بطشه" إلا من كانت شعريته
متميزة وعابر للقوالب واللغات.
وتكتسب عند بوزيد القصيدة معنى جديدا، ويقول بشأنها:
"حين توقع بي- وتسلمني للبياض- ستعلن عن موتها". ولا مكان هنا لموت
"المؤلف"، الذي يتجاوز الأشكال والقصائد" ويعيش تجربة جديدة مع كل نص
جديد يكتبه.
تعانق القصيدة "البوزيدية" تفاصيل أخرى، وهي تقرأ بالوعي الشقي من كتاب الحياة
الواسع ومن كتاب الرحلة على وجه الخصوص، حيث تحضر التجربة الوجودية مستترة أحيانا وواضحة
في بعض المفاصل، ونقرأها أيضا في أسماء الكثير من أصدقاء الشاعر وقد أهدى لهم نصوصه
أو كانوا حاضرين بأسمائهم في بعض المتون وهم من شهود التجربة الشعرية بكل تمردها وقسوتها
وحميميتها.
وتزداد سرعة التجريب في المتن ما قبل الأخير ولا
ينتهي إلا بكتابة عن أمكنة مختلفة بروح تتجاوز الشكل الخارجي لأدب الرحلة كما هو معروف،
وبكلمات قليلة جدا نقرأ "مستخلص" بعض المدن والقرى، ومعها نقرأ أسماء بعض
الأشخاص، مثل الشاعر المغربي إسماعيل غزالي ابن مدينة مريرت بالأطلس المتوسط، وفي مقطع
باسم "مريرت" يقول بوزيد: فيها انهار من عسل- فيها أسرار الطين- فيها الوحش
صديق للفقراء- فيها الإنسان تطهر بالصلصال- فيها آلهة الشهر- ونبي فيها- يدعى إسماعيل
غزالي.
"بسرعة" ينتهي بوزيد حرز الله إلى مغامرة جديدة مفتوحة على كل الاحتمالات
الجميلة.
تعليقات