ليس الفراغ الأخير وليد العدم بل هو وليد الاتساع في
أقصاءه، وما أشبه ما «الميكرو» بـ«الماكرو» بلغة
الفيزيائيين.
الخير شوار
قبل ظهور تقنية «النسخ واللصق» الشهيرة، كانت هناك ظاهرة
أخرى اسمها «الاستنساخ» عن طريق «الفوتوكوبي»، كان ذلك زمن الندرة، وكان الكتاب
الواحد القادم من الشرق أو من الغرب تصوّر منه عشرات النسخ بل المئات وبأسعار تفوق
قيمته الحقيقية. وكانت النسخ تلك تُقرأ بعناية وتحفظ في اماكن آمنة كدرر مفقودة.
لكن الظاهرة تلك تجاوزتها التكنولوجيا التي نقلتنا من التطرف في الندرة إلى حالة
التطرف في الوفرة، وأصبح بإمكان الواحد نسخ آلاف الكتب بالمجان في قرص صغير بتقنية
البي دي أف، معتقدا إنه سيطالعها يوما لكنه ينسى أمرها في زحمة الوفرة هذه ولا
يطلع في النهاية إلا على بعض عناوينها.
إنها الحالة التي تفاقمت بشكل مدهش، وأصبح الكاتب من
خلالها يبحث عبثا عن قارئ قد لا يجده مع أن نصوصه تنشر في الصحف الورقية ويعاد
نشرها في مواقع إلكترونية ومدونات وتنشر روابطها على شبكات اجتماعية مختلفة ويكتفي
القارئ المفترض في احسن الاحوال بالكبس على زر «معجب» مع أنه يكون قد قرأ العنوان
في أحسن الاحوال بقابل مئات التعليقات التي تشاهدها على الصفحة نفسها عندما تكتب
أي كلمة عبثية او تنشر صورة معالجة بتقنية الفوتوشوب.
لقد أصبحت المعلومة منتشرة في كل مكان إلى درجة أصبحت
شبه منعدمة، وهي العبثية التي أوصلنا إليها هذا الانفجار المعلوماتي التي أحال
المعرفة إلى بياض كبير يشبه السواد الحالك للجهل الأول. وما أشبه هذا الحال بما
ذهب إليه أحد أبرز علماء الكونيات المعاصرين وهو براين شميث الفائز بجائزة نوبل
للفيزياء عام 2011، عندما تصور نهاية تراجيدية لكوكبنا ومحيطه لا وفق النظرات
التقليدية وإنما نتيجة للاتساع المستمر للكون الذي يجعل الضوء لا يصل في النهاية
وساعتها لا نجد ما نراه ويصبح كوننا فارغا، وما أشبه الفراغ المنتظر بهذا الفراغ
الذي بدأ يتشكل في عقولنا من شدة اتساع المعرفة في كل الاتجاهات وهو الاتساع الذي
جعل المعلومة لا تصل وهي المتوفرة حد الازدحام مع الملايين بل ما لا يحصى من
المعلومات الاخرى.
تعليقات