بختي بن عودة |
ثمانية
عشرة سنة كاملة مرت على تلك اللحظة المأساوية. لحظة الجرح الكبير الذي أصاب جسد الكاتب
بختي بن عودة على خط تماس أحد الملاعب الشعبية بوهران. لكن الجرح لم يندمل بعد، بل
هو في اتساع مستمر.
الخير شوار
تعود الذكرى من جديد،
ذكرى اغتيال الكاتب والمثقف النقدي بختي بن عودة. نحن الآن على مسافة ثمانية عشرة سنة
من ذلك الحدث المأساوي. لم نتجاوز الدهشة بعد ومازلنا في درجة رد الفعل التي تجعلنا
نتوقف قليلا عند مرور الذكرى، دون أن نجرؤ على الاقتراب من الأسئلة الجارحة والحارقة
بتعبير الشاعر عبد اللطيف اللعبي، تلك الأسئلة التي كان الراحل بختي وفيا لها، بل سخّر
لها حياته ودفع من أجلها عمره التي توقف عند سن الرابعة والثلاثين. ورغم محاولات المرور
من رد الفعل إلى الفعل، فإن الجهود تلك توقفت عند طبع كتابه «رنين الحداثة»، ثم طبع
رسالة الماجستير التي أنجزها حول فكر عبد الكبير الخطيبي الذي رحل بعده، في طبعة يتيمة
ومحدودة، بل أن الملتقى الذي حمل اسمه تتوقف فجأة عند أعداده الاولى ولا أحد من محبي
فكره يعرف مصير ذلك الملتقى الذي كان يمكن أن يتم المشروع الذي بدأه، واجبره الرصاص
المجنون على التوقف بشكل مفاجئ ومفجع.
واغتيال بختي، يحيل
حقيقة وجازا على مقولة «اغتيال العقل»، فعندما كتب المفكر برهان غليون كتابه الذي حمل
تلك المقولة عنوانا له، عمد إلى أقصى درجات الخيال الصادم، للفت الانتباه إلى ''محنة
الثقافة العربية بين السلفية والتبعية'' وهو الموضوع الذي تناوله وجاء كعنوان ثاني
لذلك الإصدار.
كان ذلك العنوان
مثيرا حقا في زمن الاغتيال الرمزي بين الفريقين، في نهاية ثمانينيات القرن الماضي عندما
صدرت طبعته الأولى سنة 1987 لكنه لم يعد كذلك مع بداية المحنة الدموية الجزائرية التي
اغتيل فيها العقل حقيقة لا مجازا، وكان بختي بن عودة واحدا من أبرز قرابين تلك المحنة
عندما اغتيل ببشاعة قبل خمس عشرة سنة من الآن في أحد أحياء مدينة وهران التي جاءها
من معسكر وارتبط اسمه ومصيره بها.
وبختي بن عودة، المفكر
الشاب في سن ال 34، وصاحب الشارب المعقوف، الذي كتب باللغتين العربية والفرنسية في
مختلف حقول الأدب والمفكر، والمطلع بشكل جيد على أحدث صيحات الفكر العالمي، ويحتفظ
بمراسلات شخصية ونقاشات مع كبار المفكرين في العالم وأشهرهم جاك دريدا، والذي أنجز
رسالة جامعية مرجعية عن المفكر المغربي البارز عبد الكبير الخطيبي، وفي زمن تلك الحرب
التي حصدت الكثير من أرواح الأبرياء، لم يكن يلعب دورا سلبيا، بل وقف مع العقل ضد اغتيال
العقل، وظل ينشر في كبرى المجلات الفكرية العربية والجزائرية ويترجم، ويرأس تحرير مجلة
''التبيين'' لجمعية الجاحظية، وكانت في زمنه مجلة فكرية أدبية عالية المستوى.
وعندما كان دمه مستباحا،
وهو صاحب موقف واضح، لم يكن يمتلك سلاحا ناريا، ولا أقام في محمية أمنية ولا طلب الهجرة
إلى الخارج، رغم أن ذلك كان من أبسط حقوقه كمثقف نقدي مطلوب ميتا، ولجأ الكثير من المثقفين
المطلوبين إلى الهجرة الداخلية أو الخارجية مُكرهين، عندما رؤوا رؤوس زملائهم تقطع
أو نجوا هم أنفسهم من الموت بأعجوبة.
وكان حلم المفكر
الشاب يتمثل في إتمام رسالة الدكتوراه وطبع أعماله الكثيرة في الفكر والترجمة وفي الشعر،
ومن سخرية الأقدار أن أول كتبه رأت النور بعد وفاته بسنين (''رنين الحداثة'' عن منشورات
الاختلاف)، قبل أن تطبع رسالته الجامعية التي تناولت فكر عبد الكبير الخطيبي في إطار
الملتقى الذي أسسه الكاتب جمال فوغالي وحمل اسمه·
وكان بختي ممتلئا
بالحياة في زمن الموت المجاني، وممتلئا بالطفولة أيضا، وفي يوم 22 ماي 1995 كان في
أحد الملاعب الشعبية في مدينة وهران، مشاركا في دورة كروية بين الأحياء، ولعب شوطا
أولا، ثم جلس في بداية الشوط الثاني موجها زملاءه في الفريق، ولم ينتبه لأحد الأشخاص
الذي كان مندسا بين المشجعين، حيث وجه إليه سلاحا ناريا وأرداه قتيلا عند خط تماس ذلك
الملعب، وتوقف زملاؤه ساعتها عن اللعب، دون أن يتوقف صانعو لعبة الموت، ولا ندري إن
كان قاتله يدري أو لا يدري أنه أوقف واحدا من أكبر المشاريع الفكرية في الجزائر، ومن
سخرية الأقدار أن شهرة القتيل تجاوزت الآفاق وبقي حيا في كل وقت، ولا أحد الآن يذكر
حتى اسم القاتل.
تعليقات