التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المناهج الجزائرية تكرس أدباءها وتتمرد على سطوة المصريين



لم يكن الدخول المدرسي في الجزائر عاديا هذه المرة، فقد كان مصحوبا بجدل في الساحة الأدبية والإعلامية، بسبب المقررات المدرسية للمرحلة الثانوية التي أدخلت عليها تعديلات معتبرة. وأهم تلك التغييرات اعتماد نصوص أدبية لما يسمى بـ"جيل السبعينات" من أمثال واسيني الأعرج، وأحمد منور، وأحمد بودشيشة وغيرهم، والتقليل من وجود الأدباء المصريين الذين كانوا يغزون المقررات بقوة لافتة. ولئن كان مطلب تجديد المناهج ملّحا، فإن اختيار الأسماء كان محور النقاش، بين مؤيد ومعارض ومتحفظ.


الخير شوار
أصبح تلاميذ السنة النهائية في المرحلة الثانوية بالجزائر، منذ بداية هذه السنة مجبرين على قراءة نصوص لأدباء من جيل السبعينات. وهو الجيل الذي ما زال يثير الجدل ويوصف بأنه ايدلولوجي، وقد بدأ الكتابة والانتشار زمن النظام الاشتراكي في الجزائر، قبل أن تتغير المعطيات، ويسلك كل منهم طريقا مختلفا عن الآخر. فإضافة إلى الكاتب والمترجم الراحل، أبو العيد دودو الذي لا ينتمي إلى نفس الجيل، فإن كل الكتاب الآخرين الذين اعتمدت نصوصهم، هم من تلك الحساسية الادبية، ومنهم واسيني الأعرج، الروائي المعروف الذي بدأ الكتابة في إطار "الواقعية الاشتراكية"، وأبناء جيله أحمد منور القاص والأستاذ الجامعي، والناقد المسرحي مخلوف بوكروح، والكاتب المسرحي السبعيني أحمد بودشيشة. ولو أن هذا الأخير، أقل شهرة من غيره، ولا يعرفه الجيل الحالي بعد انسحابه من المشهد منذ مدة طويلة. وقد جاء هذا التعديل بعد الجدل الطويل الذي أثير على الساحة التربوية والثقافية في الجزائر، الذي مفاده أن الأدب الجزائري مقصي من المقررات التي يسيطر عليها، في الغالب، كتّاب مشارقة، ومصريون على وجه الخصوص من جيل الرواد، وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام.
وفي هذا الصدد يقول أحسن تليلاني، وهو عضو في اللجنة الوطنية الجزائرية لإصلاح المنظومة التربوية، وأحد مؤلفي الكتب المدرسية للمرحلة الثانوية لـ"الشرق الأوسط": "لاحظت أن النصوص الأدبية المختارة في الكتب المدرسية السابقة هي – في العموم- نصوص مكرسة منذ أزمة غابرة، إضافة إلى كونها نصوصا لا تستجيب لمقتضيات الحداثة، بل على العكس وجدنا نصوصا تدعو إلى العنف مثل نص قصيدة "ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا" لعمر بن كلثوم في كتاب السنة الأولى الثانوية. إنها نصوص تكرس روح البداوة ولا تراهن على قيم المدنية والحداثة. أما بالنسبة للعصر الحديث، فالملاحظ هيمنة أدباء المشرق، خاصة مصر. وهناك تغييب مقصود للأدباء الجزائريين. نجد أسماء من مثل طه حسين والعقاد وأحمد أمين والرافعي وحسين هيكل، بروايتيه "زينب" و"هكذا خلقت". وهما روايتان إذا استثنينا قيمتهما التاريخية من حيث كونهما من بواكير الرواية العربية، فإنهما روايتان ضعيفتان فنيا. هذه الأسماء المصرية تسيطر على الكتاب المدرسي الجزائري". أحسن تليلاني من أشد المدافعين عن فكرة تجديد المقررات المدرسية واعتماد نصوص لأدباء جزائريين. وهو أحد الكتاب المسرحيين والنقاد المعروفين في الجزائر، ومعروف بتوجهاته "الحداثية"، وقد استغل فرصة تواجده في هيئة إصلاح المنظومة التربوية ليدافع عن أفكاره ويجسدها ميدانيا. ورغم دفاعه عن جزأرة (من الجزائر) النصوص، إلا أنه ينفي عنه صفة الشوفينية الوطنية الضيقة التي يتهمه بها أعداء فكرته. وفي هذا الصدد يقول: "دعوتي إلى جزأرة النصوص الأدبية، لم تكن لتغفل النصوص العربية. ولكن قناعتي أن يشمل اختيار تلك النصوص، كل البلدان العربية، سورية والعراق ولبنان والأردن والسعودية والكويت والمغرب وتونس، وكل الأصوات الجيدة في البلاد العربية لا أن يقتصر الأمر على أدباء مصر، حتى ولو كانت مصر أم الدنيا. كما دعوت إلى تقديم نصوص من الأدب العالمي، ذلك أن التلميذ الجزائري يعيش داخل عالم ينبغي أن يتفتح عليه حتى يعيه".
تجديد المقررات المدرسية للمرحلة الثانوية، بنصوص حية لأدباء جدد، هو مطلب ثقافي جزائري ملّح منذ مدة طويلة. فالتلاميذ في الجزائر كانوا لا يقرأون إلا للأموات من الكتّاب والشعراء، حتى ظن بعضهم أن الكاتب لا يكون كاتبا إلا إذا كان ميتا. إلا أن اختيار أسماء معينة من حساسية أدبية محددة أثار جدلا كبيرا، ولاقى معارضة شديدة، إضافة إلى أن النصوص المختارة في حد ذاتها وصفت بالضعيفة أو دون المستوى المطلوب، مع إغفال نصوص أهم. وفي هذا الصدد يقول جيلالي نجاري، وهو من شعراء "جيل الثمانينات" في الجزائر أنه اطلع بشكل دقيق على النصوص الجديدة، ورغم اعترافه بأن "الفكرة في حد ذاتها جميلة، وجميل أن تكون هناك نصوص أدبية جزائرية جديدة أساسية في الكتاب المدرسي حتى يطلع عليها الطلبة ولا يبقون حبيسي الأسماء المشرقية والتي في كثير من الأحيان لم تعد تذكر في بلدانها". لكنه يستطرد ويقول بأنه يتمنى ألا يقف الأمر عند تلك الأسماء التي تمت برمجتها، ويؤكد بأنه على سبيل المثال هناك أسماء مهمة في كتابة القصة الجزائرية بشكل جيد، لم تبرمج في المقررات. بالمقابل يضيف، بأن بعض النصوص المقررة حديثا هي دون المستوى المطلوب ولا تعطي صورة حقيقية عن المشهد الأدبي الجزائري. وحسب جيلالي نجاري مثلا أن "نص أحمد منور كان دون المطلوب، ولئن أدرج ضمن نمط القصة إلا أنه لم يكن كذلك. فهو مجرد حكاية بسيطة جدا بتقنيات أكثر بساطة، لا يمكن أن تمثل المستوى الحقيقي للأدب الجزائري. والأمر نفسه ينطبق على نص الكاتبة جميلة زنير وغيرها".
أما الكاتب والشاعر حمري بحري، من جيل السبعينات ومحسوب على الحساسية الفنية والجيلية التي ينتمي إليها من وضعت نصوصهم في المقررات المدرسية، وهو يبارك تلك الخطوة ويراها "إيجابية وفي الطريق الصحيح من اجل تعريف الناشئة بالأدب الجزائري، بعض النظر عن تلك النصوص". إلا أنه يعيب على من قرروا تلك النصوص، سقوطهم في "المحسوبية والشللية". ويؤكد حمري بحري بأنه "ليس هناك أي معيار نقدي لاختيار تلك النصوص". وحول تلك الملاحظات والانتقادات يجيب أحسن تليلاني، أحد المدافعين عن النصوص المقررة وأحد مؤلفي الكتب المدرسية للصف الثانوي الأخير قائلا: "قد يعاتبنا البعض كون هذه الأسماء هي من جيل السبعينات، وأن الكتاب المدرسي أغفل جيل الأدباء الشباب الذين نجحوا في تصوير الواقع الجزائري المعاش، والذي يتلاءم وطبيعة المناهج في كونها تحث على تقديم وضعيات ذات دلالة بالنسبة للتلميذ. أي ضرورة أن يدرس التلميذ أشياء من واقعه المعيش وليس عوالم مقطوعة الصلة بحياته وواقعه. وإنني ـ شخصيا ـ أوافق مثل هذا الطرح، خاصة وأن في جيل الأدباء الشباب أسماء قوية صنعت مجد الأدب الجزائري وطنيا وعربيا، غير أنني أتصور أن لجان تأليف الكتب المدرسية قد واجهتها صعوبات جمة في هذا المجال، تتمثل في النقص الملحوظ في تدوين الأدب الجزائري وجمعه وتصنيفه ونشره، إضافة إلى الحركة النقدية التي من شأنها التعريف بالمواهب والأقلام الجيدة، وتحديد معالم الأدب الجزائري وخصوصياته وأعلامه البارزين. وهذه مهمة ملقاة على عاتق الجامعة والتي ـ للأسف ـ تم تحييد دورها في العناية بالأدب الجزائري".
ومن الكتّاب الذين اعتمدت بعض نصوصهم في الكتاب المدرسي للسنة النهائية من المرحلة الثانوية بدءاً من هذا الموسم القاص أحمد منور الذي أكد لـ"الشرق الأوسط" بأن مؤلفي الكتاب المدرسي كانوا قد اتصلوا به وطلبوا منه اختيار نص من نصوصه، فانتخب لهم مقتطفا من قصة طويلة لم تنشر بعد بعنوان "بائعة الخبز". وحول الفكرة في حد ذاتها، فإن منور يباركها ومتحمس لها، ويعيب على المقررات القديمة تكرار أسماء بعينها، سواء في كتب اللغة العربية أو الكتب باللغة الفرنسية. وعن اختيار الأسماء فإن منور يؤكد بأن لجنة المؤلفين لا يمكن لها أن تختار أسماء مغمورة، وأن الكثير من النصوص لكتّاب آخرين غير أصلية و"مسروقة"، فمن الصعب المغامرة في هذا الشأن، واللجنة في رأيه موفقة في الاختيار.
يجمع الكل في الجزائر على ضرورة تطوير المناهج المدرسية، وتدعيم الكتب الأدبية المقررة بنصوص أدبية جديدة تجعل الكتاب المدرسي أكثر حيوية وارتباطا بالواقع. لكن الخوف كل الخوف من "الشوفينية الوطنياتية" الضيقة التي قد تأتي بنتائج عكسية، تماما مثل "الشللية". ومهما يكن فإن التغيير قد تم فعلا، والجدل ما زال متواصلا، وقد انتقل من الإطار المدرسي البيداغوجي إلى الساحة الأدبية والإعلامية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة