التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بعد 30 سنة على رحيله: شاعر النشيد الوطني الجزائري مفدي زكريا يعود متمرداً بوجهين

مفدي زكريا

مفدي زكريا المعروف بلقب «شاعر الثورة الجزائرية»، عاد ليثير الجدل من جديد بعد ثلاثين سنة على وفاته، في منفاه الاضطراري بتونس. فقد عاد اسمه إلى الواجهة بسبب بتر مقطع من النشيد الوطني الرسمي من كتاب مدرسي، وهو الذي ألفه حين كان في غياهب السجون سنة 1956.

الخير شوار
ذلك المقطع الخاص بفرنسا اسال حبراً كثيراً وأثار غضباً شديداً منذ اعتماد النشيد قبل الاستقلال، حتى اليوم. وعاد مفدي زكريا إلى الواجهة أيضاً، لأن جائزته الشعرية وهي الأهم في الجزائر اليوم، ستوسع جغرافيتها لتصبح عربية بعد أن كانت مغاربية منذ تأسيسها 1990. فكيف بمقدور شاعر ان يبقى تحريضياً ومؤججاً للغضب بعد ثلاثة عقود على موته؟
أقدم الجوائز الأدبية في الجزائر وأهمها في الشعر على الإطلاق، هي جائزة مفدي زكريا للإبداع الشعري. كانت قد انطلقت مغاربية سنة 1990، واستمرت كذلك لغاية السنة الحالية، عندما نظمت الجهة الوصية عليها، أي جمعية الجاحظية، مهرجانا شعريا كبيرا استمر ثلاثة أيام بين الحادي عشر والثالث عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، دُعي إليه كل الشعراء الفائزين على مدار سبع عشرة دورة كاملة، وعددهم يقارب الستين شاعرا من الجزائر وتونس والمغرب. وقد لبى تلك الدعوة معظم الشعراء، ليلتقوا في قاعة «الموقار» بقلب الجزائر العاصمة في الموعد المذكور. وعلى هامش ذلك الاحتفال، تم طبع وتوزيع ما سُمي «ديوان الجاحظية»، على شكل موسوعة كبيرة تضم القصائد الفائزة في تاريخ المسابقة مع سير الشعراء الفائزين. ومع تسلم الفائزين بالدورة الحالية جوائزهم وهم: التونسي سفيان رجب والمغربي طه عدنان والجزائري الميداني بن عمر، أعلن رسميا أن الدورة المقبلة للجائزة ستكون عربية وستنظم كل سنتين.
ولئن كان لجائزة مفدي زكريا موعد سنوي معلوم، فإن دورتها هذه المرة زيادة على ما سلف ذكره، جاءت في ظرف خاص جدا، تمثل في الجدل الإعلامي والسياسي الذي استمر أياما طويلة، حول النشيد الوطني الجزائري المعروف بـ «قسما» الذي كتبه الشاعر مفدي زكريا نفسه بأعرق سجن يعود إلى الزمن العثماني التركي في الجزائر، الذي عرف بسجن «برباروس» بالجزائر العاصمة بعد مدة قصيرة من اندلاع الثورة الجزائرية في نوفمبر تشرين الأول 1954. ذلك النشيد تعرض للبتر في مقرر مدرسي للصف الخامس الابتدائي هذه السنة. البتر الذي لم يعلن عنه في حينه، سرعان ما كشفت عنه الصحافة المحلية وأصبح الخبر الافتتاحي للصحف اليومية لأيام متتالية. وفور انفجار تلك الأزمة سارعت وزارة التربية والتعليم في الجزائر إلى سحب كل الكتب الموزعة على التلاميذ واستبدالها بكتب أخرى، تتضمن المقطع المحذوف، مع فصل مؤلف الكتاب المفتش أحمد فريطس ورئيس مشروع الكتاب المدرسي المذكور محمد الشريف عميروش. والمقطع المثير للجدل الذي تم حذفه هو الثالث من أصل خمسة مقاطع تمثل النشيد الوطني الجزائري وهو:
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
وطويناه كما يطوى الكتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب
فاستعدي وخذي منا الجواب
إن في ثورتنا فصل الخطاب
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا.. فاشهدوا.. فاشهدوا
وبينما أزمة النشيد الوطني الجزائري تسير نحو الانفراج بعد طرد المؤلف والمشرف على المشروع وسحب الكتب التي بتر منها المقطع الثالث من النشيد الوطني واستبدالها بأخرى مصححة، أخذت الأزمة منعرجا آخر بنشر صحيفة «الجزائر نيوز»، وجهة نظر المتهمين في القضية، أحمد فريطس ومحمد الشريف عميروش، اللذين أكدا بالوثائق بأنهما لا يتحملان مسؤولية البتر وأن القضية تتجاوزهما. وقد دافعا عن نفسيهما بالوثائق المتمثلة في شريط مسجل صادر عن الوزارة الوصية نفسها خال من المقطع المذكور يضاف إليه وثيقة موقعة من طرف رئيس اللجنة الوطنية للمناهج بالوزارة، يؤكد مسؤوليته في اعتماد ذلك الكتاب بالنشيد المبتور، وما تزال القضية مفتوحة على أي جديد في الأيام المقبلة.
أزمة بتر النشيد الوطني هذه أعادت الحديث عن النشيد وصاحبه بعد ثلاثين سنة من رحيله في منفاه الاضطراري بتونس. وقد اختلف يومها مع الرئيس الراحل هواري بومدين وخياره الاشتراكي، الذي اعتمده وعارضه مفدي زكريا بقوة، بل وهاجمه في بعض قصائده ومواقفه. وبعد الانسداد الذي عرفته العلاقة بين شاعر الثورة الجزائرية والقيادة السياسية آنذاك، اضطر الشاعر لمغادرة البلاد مكرها وظل متنقلا بين تونس والمغرب إلى أن توفي في أول أيام رمضان في السنة الهجرية الموافقة لسنة 1977م، ونقل جثمانه ودفن في صمت ولم تتناوله وسائل الإعلام حينها إلا بخبر صغير جدا لا يتعدى الأسطر المعدودة. ومما يروى أن الرئيس الراحل هواري بومدين أثناء الأزمة بينه وبين مفدي زكريا فكر في استبدال النشيد الوطني الذي كتبه مفدي بنشيد آخر، وأعلن عن مسابقة، تقدم فيها الأناشيد المتسابقة إلى لجنة سرية من دون أسماء المرشحين. وقيل إن مفدي زكريا نفسه تقدم للمسابقة بنشيد آخر وفاز بالجائزة. وعندما علم بومدين بالأمر قرر، في الأخير، الإبقاء على نشيد «قسم» المعتمد قبل الاستقلال. ويذكر أنها ليست المرة الأولى التي يثار فيها نقاش حول ذلك المقطع بالذات من النشيد الوطني، الذي كثيرا ما تسبب في أزمات داخلية وحتى خارجية مع المستعمر السابق للجزائر، التي عمل مسؤولوها على طلب إلغاء ذلك المقطع. فبعض الكتب المدرسية في ثمانينات القرن الماضي كانت قد حذفت ذلك المقطع الذي عاد بقوة بعد ذلك. ويذكر البعض أنها كان محاولة من أعلى مستوى في السلطة لإلغاء مقطع «يا فرنسا قد مضى وقت العتاب» سنة 1982 بتمرير مشروع القانون على البرلمان زمن الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد. لكن القانون لم يمر في النهاية بالتصويت في البرلمان وقيل إن مشروع ذلك القانون جاء بعد نقاش بين الشاذلي بن جديد وفرانسوا ميتران الرئيس الفرنسي حينها. ولئن كان المقطع المذكور لم يحذف قانونيا إلا أنه من الناحية العملية، ظل مغيبا لمدة طويلة قبل أن يعود بعد ذلك. ما زال مقطع «يا فرنسا قد مضى وقت العتاب» الذي كتبه الشاعر الجزائري الراحل مفدي زكريا من قلب السجن سنة 1955 يثير الجدل ويتسبب في خلافات سياسية تبلغ أحيانا درجة التأزم، وقد عاد كاتبه يصنع الجدل من جديد في الذكرى الثلاثين لرحيله في المنفى وبلاده مستقلة. عاد الشاعر بوجه ثقافي وآخر سياسي، وهو الذي قضى حياته مناضلا سياسيا وأنهاها معارضا ونال لقب «شاعر الثورة الجزائرية» بامتياز.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة