يعتقد الكثيرون أن جميلة بوحريد، من شهيدات الثورة الجزائرية، لكنها في الحقيقة ما زالت موجودة بيننا، تسكن مدينة الجزائر، بعد حوالي خمسين سنة من صدور حكم الإعدام بحقها. ومع احتفالات ذكرى ثورة الجزائر اخيرا، عادت هذه المناضلة بشكل فني من خلال استعراض شعري ـ موسيقي حمل اسمها. لكن المرأة استمرت صامتة، صمتها المحير، وهي التي كانت أصبحت أكثر نساء الجزائر حضورا في الأدب العربي حتى سمّاها بعضهم «جان دارك العرب».
الخير شوار
«اسمي جميلة»، استعراض موسيقي ـ شعري، يتضمن قصائد لشعراء منهم السوريان سليمان العيسى ونزار قباني والسوداني محمد الفيتوري والعراقي بدر شاكر السياب والجزائريان الراحلان صالح باوية وجمال عمراني والشاعر الشاب عبد القادر حميدة، والفكرة للروائي أمين الزاوي وإخراج الشاعر عبد الناصر خلاف. وقد تم عرض العمل في إطار ملتقى حول «الثورة التحريرية الجزائرية في الأدب العربي» الذي انعقد منذ أيام في إطار الاحتفالات بالذكرى 53 للثورة. العرض الذي رافقته موسيقى من إعداد العراقي أحمد مختار، كان بمثابة إدانة للتعذيب الذي مارسه الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وقدمه معدوه قائلين: هذا التركيب الشعري هو محاولة للقبض على تلك اللحظات التراجيدية في فضاء السجن. ذلك الفضاء المقيت الذي واجهته بكل روح التحدي مناضلة كبيرة اسمها: «جميلة بوحريد». ومثلما أثارت جميلة بوحريد الجدل منذ أن صدر قرار بالحكم عليها بالإعدام سنة 1957 وأصبحت بذلك أشهر امرأة جزائرية على الإطلاق، فقد كانت الحاضرة الغائبة طيلة أيام الملتقى.
وجميلة بوحريد التي ينطق اسمها المشارقة «بوحريد» يعتقد الكثيرون أنها استشهدت، لكنها لا تزال على قيد الحياة، والمعلومات القليلة المتوفرة بشأنها أنها من مواليد العاصمة عام 1935، تركت معهد الخياطة والتحقت بالصفوف الأمامية للثورة الجزائرية عام 1956، وعملت بتكليف من عمها مصطفى على رعاية قادة «معركة مدينة الجزائر» من أمثال علي لابوانت، ثم عملت على زرع المتفجرات التي كانت تصنع في بيتها وقامت بتنفيذ عملية ملهى «ميلك بار» الشهيرة في يناير 1957، لكنه تم القبض عليها بعد ذلك يوم 9 أبريل من نفس السنة، بعد إصابتها الخطيرة في ساقها إثر مواجهات دامية مع الجنود الفرنسيين. وعند القبض عليها وجدوا معها وثائق خطيرة ومبالغ مالية معتبرة تخص الثوار. تم تعذيبها بقسوة بالغة، بالكي الكهربائي، وتحرش بها بعض السنغاليين المجندين في الجيش الفرنسي بوحشية. وتم إصدار حكم بالإعدام في حقها، واعتقد كثيرون أنها ستنتهي مثل زملائها الذين مزقت المقصلة رقابهم. لكن فجأة ظهر المحامي الشهير جاك فرجيس، الذي دافع عنها بقوة، وأعطى لقضيتها، رفقة زميلاتها، بعدا إعلاميا دوليا، وأصبحت رمزاً للقضية الجزائرية. وبقيت قضية بوحريد معلقة إلى أن جاء الاستقلال بداية صيف 1962. وبسبب شهرتها كتبت عنها عشرات القصائد، وأنجز حولها يوسف شاهين فيلماً مصرياً شهيراً لعبت بطولته الفنانة ماجدة الصباحي إلى جانب كوكبة من الفنانين مثل محمود المليجي وزهرة العلا وصلاح ذو الفقار وغيرهم.
بعد استقلال الجزائر ظلت غالبية الشعب الجزائري تعتقد بأن جميلة من الشهيدات، وحملت مدارس ومنشآت اسمها وفي المناسبات تمثل مسرحيات تنتهي باستشهادها. لكن جملية كانت تعيش في صمت وقد تزوجت محاميها جاك فرجيس الذي أنقذها من الإعدام، بعد أن أقنعته باعتناق الدين الإسلامي. وعن جميلة بوحريد بعد الاستقلال يؤكد د. عبد الله حمادي الذي تابع قضيتها واهتم بدراسة الأدب المتعلق بها: إنّ الوثائق تؤكّد أنّ هذه المرأة قرّرت منذ 1963 نكران ذاتها، فكما تنازلت عن حقّها المشروع في كرسيّ النّيابة، تنازلت أيضا عن حقّها في الاستحواذ على أملاك الجزائريين. وقد ذكر لي مرّة المجاهد عبد الرزّاق بوحارة أنّه حظي باستقبالها لمّا كان واليا (محافظا) للجزائر العاصمة وطلبت منه أن يمنحها مسكنا يأويها فعمل جهده وأكرم مسعاها ببيت في أعالي العاصمة، وهو أقلّ ما يمكن أن يمنح لمثيلاتها. لكن من حسن حظها أنّها أبطأت في تسلّم البيت، واحتلّه كما جرت العادة، أحد رفاقها في النضال. فما إن وصلها الخبر حتّى بادرت بالتنازل له عن طيب خاطر وآثرته على نفسها. وآخر أخبارها الشحيحة هو انها تسكن إحدى عمارات حي حيدرة، ومن سوء حظها أنّ نصيبها كان في الدّور الثامن، وربّما مثل هذا الجزاء هو ضريبة سموّ النّفس والعزّة والكبرياء الحقيقية. والمحزن أن العمارة التي تسكنها جميلة في سن الـ72 ليس فيها مصعد كهربائي. وجميلة تعيش حياة بسيطة جدا، ولا تكلم الصحافة وتحرص على ألا تظهر صورتها. ومن المرات القليلة جدا التي ظهرت فيها، منذ حوالي أربع سنوات على هامش صالون الجزائر الدولي للكتاب، عندما حرصت الروائية أحلام مستغانمي على حضورها معها. وكانت مستغانمي تقول بأنها التقتها بمحض الصدفة عندما كانتا في طائرة واحدة. وكانت جميلة في الدرجة الاقتصادية، بينما أحلام في الدرجة الأولى. كانت جميلة تجلس في الكراسي الخلفية ولا أحد يهتم بها، فلم يكن أحد يعرفها. وعندما تكلمت مستغانمي «فضحتها» والتفتت إليها الكاميرات لكنها عملت على تغطية وجهها بمجلة كانت تحملها، ورجت الجميع ألا يصورها أحد. وعند نهاية المؤتمر الصحافي الذي أقامته مستغانمي كانت جميلة تبدو بسيطة جدا في زيها وكلامها والتف حولها جمع من الكتّاب والصحافيين ترجتهم ألا يكلموها في ماضيها الثوري أو السياسي. وكانت تقول أريد أن أتكلم مثل الأم مع أبنائها، وعندما سألتها عن الانطباع الذي تكوّن عنها من خلال فيلم جميلة قالت بتلقائية: «ذلك الفيلم لا يمثلني في شيء ولا يشبهني في شيء».
وبعيدا عن حياة جميلة الحقيقية التي يكتنفها الغموض، يؤكد عبد الله حمادي انه لا يوجد في تاريخ الجزائر رمزاً احتفى به الشعر العربي مثل جميلة بوحريد. وربّما يأتي بعد هذا الرّمز في التّرتيب «الأوراس» ورموز أخرى مثل «وهران» وغيرها. ومع عرض «اسمي جميلة»، في احتفالات ذكرى ثورة الجزائر، أثير نقاش واسع حول أسطورة جميلة في الأدب والسينما والمسرح، لكنه نقاش بقي فنياً، وجميلة ما زالت تعيش عزلتها في الطابق الثامن من عمارة بوسط العاصمة ولا تهتم كثيرا بتلك النقاشات التي استثمرت اسمها.
تعليقات