التخطي إلى المحتوى الرئيسي

العودة إلى المنفلوطي

لا أحد من الكُتّاب تقريبا يجرؤ على الاعتراف بأنه تأثّر به، رغم أن قصصه و"رواياته" ما تزال تحقق أرقاما قياسية في المبيعات، إلى درجة أن بعض الناشرين كوّن ثروات "على ظهره"، بعد أن أصبحت كتبه تراثا "مشاعا".
مصطفى لطفي المنفلوطي

الخير شوار
لم يكن يجيد من اللغات إلا العربية، ومع ذلك "ترجم" بعض الروائع الأدبية الفرنسية فأصبحت صياغتها العربية تُنسب إليه، وكان يستعين ببعض أصدقائه العارفين باللغة "الفرنساوية" لفهم السياق العام لتلك القصص ثم يعيد كتابتها بأسلوبه.
هو مصطفى لطفي المنفلوطي ذلك الرجل ذي الشارب المعقوف والزي المصري التقليدي الذي أصبح القّراء العرب ينسبون إليه مثلا رواية "ماجدولين" مع أن مؤلفها الأصلي هو الفرنسي ألفونس كار، مثلما نسبوا إليه "بول وفرجينيه" لـ "برناردان دي سان بيار" وأصبحت تعرف بـ"الفضيلة"، فلا أحد يستعيد أحداث تلك القصة دون أن يغالبه الدمع وهو يتابع أطوار قصة الحب تلك التي جمعت الفتى بول بالفتاة فرجيني في جزيرة موريس قرب مدغشقر.
نشأ المنفلوطي في بيئة تحتفي بالصنعة اللفظية المقعرة الموروثة من عصر "الانحطاط"، مثلما جاء في "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي مع نشوء المدرسة الكلاسيكية التي كانت تحتفي بقوة اللغة مثلما جاء في كتابات محمد حسين هيكل (زينب، وهكذا خلقت) وبقي كل منهما علما عند أنصاره، لكن مصطفى لطفي "الأحادي اللغة" فعل فعلته وأعطى القصص التي قرأها شيئا من روحه الحزينة فجاءت "العبرات" و"في يسبل التاج" و"الفضيلة" و"ماجدولين" مع أن معظمها مقتبس وكأن كاتبها الأصلي شخص واحد.
وكان المنفلوطي في كتاب العبارات وهو عبارة عن مجموعة قصص، يضع تنويها عند بداية كل قصة بكلمة "موضوعة" أي من تأليفه الشخصي، و"مترجمة" إلا مقتبسة من الأدب العالمي، ومع اللغة نفسها يلحظ القارئ التفاوت بين المواضيع، ولا يمكن أن ينسى مأساة "مارغريت" في القصة "المترجمة" بائعة الهوى تلك التي أحبت شابا ثريا جاء يدرس في الجامعة، وعندما علم والده بالأمر زارها وعرض عليها مالا كثيرا لتتخلى عنه، فتخلت دون أن تقبل بقبول شيئا وكانت تمثّل أمام حبيبها أنها تعشق شخصا غيره، وبعد أن هجرها حبيبها مرضت مرض الموت فزارها الشيخ وطلبت منه طلبا وحيدا وهو أن ترى ولده للمرة الأخيرة، وعندما أمر الشيخ ولده بالحضور كان الولد حاقدا عن مارغريت وفي لحظة ما يخبر الشيخ ولده بالحقيقة ليأتي إليها يجري بلهفة لتموت بين أحضانه. نجحت تلك القصة عندما صاغها المنفلوطي وضمّنها كتابه العبرات، ونجحت أيضا عندما تحوّلت إلى فيلم سينمائي من بطولة حسين صدقي وليلى مراد بعنوان "ليلى" كما أعيد تمثيلها أيضا في فيلم من بطولة يوسف وهبي ومريم فخر الدين وفريد الأطرش.
ويبدو أن المنفلوطي لم ينجح بلغته الشفّافة البسيطة فقط وهو الذي كان يداوم الكتابة في الصحافة، وإنما نجح باختياره لقصص الحب الخالدة إلى درجة أن كتبه نافست دواوين نزار قباني في التعبير عن لوعة المحبين، وأصبحت الديوان النثري للعشق والعاشقين على مدى قرن كامل من الزمن.
وبعد حوالي تسعين سنة من رحيله، ما يزال مصطفى لطفي المنفلوطي صاحب الثقافة المتواضعة والأحادي اللغة، يحقق أعلى المبيعات ويحرص بعض الناشرين على طباعة كتبه بشكل دوري، في وقت يشتكي الروائيون المعاصرون من "أزمة القراءة" والكثير منهم يطبع ألف نسخة من كل عمل روائي، فلا يبيع بعد سنين طويلة إلا النصف أو الأقل من تلك الكمية المكدّسة.

عن "ديوان الحياة"، جريدة "الحياة" الجزائرية 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة