كانت المسرحية باللغة العربية "الفصحى"،
وكان عنوانها "حزن السلطان"، مثلما قدّمتها المنشّطة التي تمنت للحضور سهرة
سْعيدة (بتسكين حرف السين).
الخير شوار
وبسرعة رُفع الستار وظهر "السلطان" جالسا على
عرشه وهو يقول بلغة كاريكاتورية، وأحد حرّاسه يقف عند رأسه يحمل حربة: "كم حياتي
حزينة، لن تستطيعون أن تعلموا كم من مليك يتعب في هذه الأريكة، أعرف قواتنا الابتكارية
وثرواتنا ورزقنا الموروث، لكن تعب عميق تعب عميق، مثل المحيط، أحكم وأقبض والأيام تمضي
والرؤوس تسقط ولا شيء يتحرك، إني حزين، حزين لأني بلا حب، إنني الأمير، الأمير بدون
حب". وفجأة يدخل أحد خدمه وينحني ليقبّل يده ويبقي منحنيا، فينطق أحد المشاهدين
قائلا بلغة محلية عاصمية: آيا اقتل السلطان يا خي طاعون ياخي.. ياخي قوقوعو يا خي"،
وتنفجر القاعة ضحكا وتتسارع الأحداث وسط تثاؤب البعض، لتنتعش القاعة بشكل مفاجئ عندما
ينهض أحد الشبّان يرقص بطريقة محلية ليشد إليه الأنظار ويضطر الممثلون لإنهاء
"مسرحيتهم" والخيبة تملأ وجوههم. وكان الجمهور في الأصل "يتحمّل"
ذلك العرض الممل الذي سبق حفلا موسيقيا لعبد القادر شاعو، والمشاهد كلها كانت ضمن أحداث
فيلم "عمر قتلاتو الرجلة" للمخرج مرزاق علواش التي أنجز سنة 1977.
ولم يكن ذلك المشهد استثناء في ذلك السياق، فقد
تكرر كثيرا في السينما المصرية عندما أبدع –مثلا- الفنان الراحل عبد المنعم إبراهيم
في التصوير الكاريكاتوري لمدرّس اللغة العربية الذي لا يتكلّم إلا بالفصحى حتى في مجالسه
الخاصة جدا، وفي شخصيته مزيج بين السطحية والنفاق والانتهازية.
وليس غريبا أن تسمى تلك اللغة "لغة خشب"،
تقول كل شيء من أن ألا تقول شيئا في النهاية، حيث أن مستعمليها يركّزون على الإطناب
ويحرصون على سلامة اللغة على حساب المضمون.
وكان المسرح الجزائري في بدايته الأولى يستعمل اللغة
الفصحى، ولم يكتسب جمهورا إلا أن خاطب الشعب بلغته فظهرت مثلا مسرحية "حجا"
لسلالي علي الشهير باسم علالو سنة 1926، وكان ذلك بمثابة الميلاد الحقيقي المسرح الجزائري
بلغة الشعب التي تطوّرت كثيرا بعد ذلك وبلغت نضجها مع أعمال ولد عبد الرحمن كاكي وعبد
القادر علولة وامحمد بن قطاف وغيرهم.
وفي الوقت الذي اعتقد فيه الكثير أن المسرح الجزائري
"اعتمد" لغته القريبة من "اللغة الثالثة" بتعبير توفيق الحكيم،
عادت الفصحى من جديد، وشهدت سنة 2007 تحولا ملفتا، تزامنا مع تظاهرة "الجزائر
عاصمة للثقافة العربية"، حيث أًنجزت لكثير من المسرحيات باللغة العربية
"الكلاسيكية"، والمفاجأة أن الكثير من الفنانين من أبناء الجيل الجديد أبدعوا
فيها إلى درجة أذهلت المشارقة، ومع كثير من العروض تراجعت فرضية "سطحية"
الفصحى أمام "عمق" اللغة الشعبية، بل أن الكثير من المسرحيات العالمية المترجمة
والصادرة في كتب تجسدت على الركح بتلك اللغة "المعيارية" دون أن تدرّج وأصبح
الكثير من الفنانين لا يمثلون إلا بالفصحى ونالوا جوائز محلية وإقليمية معتبرة، بل
وانتقلت الظاهرة من المسرح إلى السينما والدراما التلفزيونية، حيث أُنجزت الكثير من
الأعمال الملفتة. وبدا أن ما حدث سنة 2007 لم يكن مجرد عارض، بل تحوّل حقيقي، حيث أصبح
للمسرح أكثر من لغة مع نجاح تجارب أخرى للمسرح باللغة الأمازيغية.
ورغم نجاح نماذج مسرحية بالفصحى وبـ"العامية"،
فإن الكثير من المهتمين لا ينظرون إلى الأمر من منظار التعدد والاختلاف، بل بطريقة
أحادية، فهم يرون عن حق أو عن باطل أن "اللغة ليست حيادة".
تعليقات