''بروميثيوس'' الذي أطفأ القطار ناره
كتابان في كتاب واحد، ذلك الذي حمل توقيع الشاعر والباحث
الجزائري بوعلام دلباني، والذي استعداد من خلاله ذكرى صديقه الراحل الشاعر عبد
الله بوخالفة الذي أقدم على إنهاء حياته عندما رمى بنفسه أمام القطار في أوائل
أكتوبر 1988، بينما البلاد تشهد أحداثا غيرت تاريخها بشكل جذري.
الخير شوار
الكتاب المزدوج، صدر عن ''منشورات البيت'' بالجزائر، ويتمثل
في دراسة عن الشاعر الراحل عبد الله بوخالفة، بعنوانين: ''فجيعة التروبادور''، و''جئت
إلى هذا العالم لأختلف معه''. ثم منتخبات من شعره اختار لها المؤلف بوعلام دلباني عنوان
''سقوط سارق النار''. وانطلاقا من مقولة مشهورة للروائي الروسي الشهير مكسيم غوركي
''جئت إلى هذا العام لأختلف معه''، يبدأ الكاتب دراسته محاولا بكل جهده أن يتجرد من
ذاتيته من أجل مقاربة موضوعية لظاهرة الشاعر عبد الله بوخالفة، الذي رحل بطريقة مفجعة
عندما أقدم على إنهاء حياته في أجواء أكتوبر 1988 إيذانا من حيث لا يدري بجيل 1988
الشعري، وهو الذي كانت تجربته إرهاصا حقيقيا لميلاد هذا الجيل.
لقد كانت تجربة بوخالفة -حسب الدراسة- متفردة في سياقها،
وتتقاطع في تفردها مع تجربة الشاعر الفرنسي آرتير رامبو، الذي أنهى حياته الشعرية وعمره
لم يكن يتجاوز التسع عشرة سنة، وسافر إلى أدغال إفريقيا يريد أن يكون شاعرا ومات بعد
أن بترت ساقه وعمره 37 سنة. لقد وصف ذلك الشاعر بأن ''الرجل الذي انتعل الريح''، ويقول
بوعلام دلباني إن ''رامبو الجزائري، أقصد بوخالفة، لم ينتعل الريح، وإنما انتعل الشعر
طفولة أخرى يقاوم بها صلافة العالم القمعي. ورغم ذلك لم يحفل كثيرا بتشويش اللغة ولم
تأسره الرغبة الجامحة في إرجاع العالم إلى العماء الأول''.
ورغم التزام المؤلف بوعلام دلباني بالموضوعية في دراسته التي
أخذت نصف الكتاب، إلا أن ما يميزها أن جاءت ممزوجة بشهادة شخصية عنده، وهو يذكر من
حين إلى آخر بعد تفاصيل تلك العلاقة، عندما يستعيد ما كان يقوله مثلا حول أطروحات ماركس
حول فيورباخ المتعلقة بجدلية تفسير العالم وتغييره التي تحيل إلى الالتزام الإيديولوجي
للمثقف، كما يذكر آراءه في بعض الشعراء ضمن الأحاديث الشخصية معه. وكان آخر ما قاله
له في صيف 1988 ''لقد وصلت إلى الجدار''. لقد كان العالم حينها مشغولا بجدار آخر وهو
جدار برلين الذي سيسقط الذي سيسقط بعد سنة من ذلك معلنا انتهاء ما كان يسمى ''المعسكر
الشرقي''، لكن الجدار الذي كان يتكلم عنه الراحل بوخالفة هو من نوع آخر، لكن المستمع
لم يكن يدري ساعتها أن الجدار لم يكن يتعلق بالإيديولوجيا فقط، بل بالتجربة الحياتية
ككل وسرعان ما وضع حدا لحياته ومزقت عجلات القطار جسده في بداية أكتوبر 1988 والبلد
حينها مقبل على تغيير دراماتيكي، لم ينه مرحلة سياسية فقط، بل عمل على إنهاء مرحلة
أدبية وبداية أخرى مختلفة عنها بشكل جذري.
والجزء الثاني من الكتاب، هو عبارة عن مختارات شعرية للراحل
بوخالفة، ورغم أنها مأخوذة من ديوانيه الشهيرين ''رحلة التروبادور إلى جبل بومنقوش''
و''حيزيات مدرسة البخاري''، إلا أن الكاتب بوعلام دلباني اختار لها عنوان ''سقوط سارق
النار''، الذي يحيل إلى برويثيوس في الأساطير القديمة الذي غافل الآلهة وسرق منهم النار
وأعطاها للبشر ومنح للبشرية بذلك النور والمعرفة التي كانت حكرا على الآلهة. لكن
''بروميثيوس'' في تجربة بوخالفة سرعان ما سقط وانتهى تماما، ليولد محله آدم ''يكف يده
عن قطاف المعنى من شجرة السر، ويستجدي مرضاة آلهة المؤسسة الثقافية والاجتماعية السائدة''
كما جاء في الدراسة، وهي المأساة التي بدأت مع الراحل بوخالفة وسرعان ما تكررت مع تجارب
أخرى بطرق أخرى.
تعليقات