يوم بعد رحيل المناضل عبد الحميد مهري، وعند ساحة القدس
بحيدرة، لا يتعب شرطي المرور في توجيه الناس إلى بيت الفقيد، ويكتفي بالقول: «اتبع
اتجاه السيارة ستجد نفسك عند البيت»، ويبدو أنه ألف الحركة منذ مساء اليوم السابق،
حيث توافدت الجموع المعزية.
الخير شوار
الساعة كانت تقترب من الواحدة زوالا، وغير بعيد عن بداية
شارع سعيد حمدين، كان الناس متجمعين وليس بعيدا عنهم كانت عربات الحماية المدنية
متوقفة في انتظار أي طارئ، هي جنازة، لكنها ليست أي جنازة، إنها متعلقة بواحد من
أشهر الشخصيات السياسية التي تركت بصمتها واضحة على الأحداث من بدايات الحركة
الوطنية إلى الآن، وفي كل مرحلة كانت له كلمته وموقفه الواضح، هو عبد الحميد مهري الذي من شدة قوة حضوره لم يتوقع الكثير أنه سيرحل على الأقل في هذا الظرف الاستثنائي
الذي تمر بها البلاد والمنطقة وهو الذي شغلته القضية الوطنية مثلما شغلته هموم
أمته التي آمن بها وانخرط في مشاريعها الفكرية والسياسية دون أي تعصب أو أحادية في
الفكر.
عند النقطة رقم 30 من الشارع، أقيم ذلك البيت البسيط
والأنيق، بيت من طابق واحد وهو الاستثناء بين مختلف البنيات المجاورة التي تحوي
طابقين على الأقل. وكان الوقت يمر ببطء حيث أن موعد الجنازة بقي عليه بعض الساعات،
وربما لهذا السبب فإن الكراسي البلاستيكية المتجانسة والمصطفة بقيت فارغة في
عمومها، إلا من بعض المعزين الذين يؤدون الواجب ولا يلبثون كثيرا هناك.
ويقف في استقبال جموع المعجزين، شاب أنيق طويل، عليه
ملامح الحزن، ولا يتردد في تقديم اسمه، هو سهيل مهري الابن الذكر الوحيد للراحل بين شقيقتين هما (سها،
وسهام)، يستقبل الناس تارة والمكالمات الهاتفية تارة أخرى ويبدو الرقم الذي يتقبل
منه المكالمات هو الذي كان يمتلكه مهري والذي كان بحوزة الصحفيين ومختلف الفاعلين
الثقافيين والسياسيين، لكنه الآن أصبح مجرد ذكرى ويجد محبوه صعوبة في الاحتفاظ به
أو تشطيبه.
ولا يتردد سهيل مهري في التعرف على هوية المعزين الذين
لا يعرفهم، وعندما يعلم بأننا من الصحفيين يطلب بكل لباءة وبرجاء أن لا مجال للعمل
الصحفي، فالمكان للعزاء والمطلوب أن يبقى كذلك، ومن بين الوجوه المعزية يتعرف على
البعض منهم العقيد محمد الصالح يحياوي المسؤول السابق بحزب جبهة التحرير الوطني
الذي كان برفقة الدكتور عبد العزيز جراد إضافة إلى الوزير السابق بوجمعة هيشور
الذي كان غير بعيد من هناك، غير أن المشهد كان يتغيّر في كل مرة، حيث يستأذن من
كان جالسا ويأتي أناس آخرون، والكل ينتظر ساعة التشييع الأخيرة التي بدأت تقترب.
وفي ركن آخر من ساحة العزاء يجلس شيخ ملتحي ونحيف، هو
محمد الصالح رحاب صاحب المكتبة ودار النشر التي تحمل اسمه، ولا يتردد في الحديث عن
الراحل الذي يؤكد انه يعرفه جيدا كما كان يعرف والده وشقيقه وكل عائلته الكبيرة
والصغيرة، ويعلّق على بعض الصحف الصادرة التي يقول بأنها أخطأت في مكان ولاية
مهري، ففي الوقت الذي قال فيه الكثير أنه من مواليد مدينة الحروش، يؤكد رحاب أنه
ولد في الخروب، ثم رحل مع عائلته صغيرا جدا إلى وادي الزناتي، ويقول إن رحلة عبد
الحميد مهري مع الوعي الوطني بدأت سنة 1938 مع شيخه عبد الرحمن بلعقون الذي كان
متزوجا من شقيقة عبد الحميد، ويعلق إن الراحل ليس مجرد «حشيشة نبتت وهكذا»، بل هو
نتاج أسرة معروفة وشيوخ تتلمذ عليهم، ويقول إنه يعرف تفاصيل دقيقة عن دور الراحل
في مظاهرات الثامن من ماي 1945، ويعرف جيدا ما قام به في وادي الزناتي عندما كان
مناضلا هناك ومنع بحنكته حدوث مذبحة في المنطقة. ويقول محمد الصالح رحاب أنه عمل
جاهدا من أجل إقناع مهري بكتابة مذكراته لكنه لم يسلمه شيء، ولا يعلم إن كان يخفي
في أوراقه الخاصة بعضا من تلك السيرة أو لا.
وتتغير وجوه الحاضرين، يذهب قوم ويأتي آخرون، يحضر
الأمين العام الأسبق لحركة الإصلاح محمد جهيد يونسي، كما تحضر الوزيرة السابقة
زهور ونيسي والصحفية حدة حزام لتوجه النساء إلى داخل البيت ويبقى الرجال في ساعة
البيت، ويجلس أحدهم وهو يحمل جرائد بين يديه ويخط بقلم فوق جريدة وهو يقول: «مهري
من أكبر الأهرامات الوطنية الحية»، ويواصل سهيل مهري بثبات وصبر استقبال المعجزين،
وفي ركن منزوي يجلس إلياس بن خدة نجل الرئيس الأسبق للحكومة المؤقتة الراحل بن
يوسف بن خدة، القريب من العائلة وهو يتكلم عن بعض التفاصيل حيث يؤكد أن الراحل
مهري كان قد نقل مساء أول أمس الإثنين من مستشفى عين النعجة حيث لفظ أنفاسه
الأخيرة إلى بيته بين السادسة والنصف والسابعة ليلا في انتظار أن ينقل إلى آخر
مثواى له في مقبرة سيدي يحي إلى جانب بن يوسف بن خدة وسعد دحلب ومناضلين آخرين
اختار أن ينام إلى جانبهم.
وكان من بين الحضور الفنان الممثل طه العامري، الذي بدى
حزينا ومنكسرا، وعندها نقترب منه للحديث معه، فيقول أنه كان يعرفه منذ أيام حزب
الشعب والمنظمة الخاصة قبل الثورة، ويذكر عنه طيبته وانفتاحه على كل الناس
والحساسيات، وبنبرة حزن يقول أن عبد الحميد عندما كان يراه يناديه بصوت مرتفع
قائلا: «طه».
وكانت الساعة تشير إلى الواحدة و52 دقيقة زوالا عندما
جاء بعض الشباب برافعة الموتى، إيذانا باقتراب نقل جثمانه إلى المثوى الأخير، وفي
وقت كان البعض يسأل عن حضور الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد من عدمه وهو الذي كان صديقه
ورفيقه وصهره، أكد البعض أن الرئيس الأسبق حضر صباحا وجاء خصيصا في طائرة من فرنسا
حيث كان يتلقى العلاج ليلقي نظرة أخيرة على رفيقه. وتواصلت حركة المعزين إلى أن
حلت ساعة الوداع الاخير حيث تنقلت الجموع في جثمان الراحل إلى مقبرة سيدي يحي.
تعليقات