التخطي إلى المحتوى الرئيسي

جحا الجزائري يعود إلى الخشبة بعد 75 سنة


عرف جحا كشخصية مرحة تصنع الفرح، لكنه ليس كذلك في الثقافة والمسرح الجزائريين؛ فقد عرف عن المجتمع الجزائري بأنه من أقل المجتمعات صناعة للنكتة، ولئن كان جحا حاضرا بقوة في المخيال الشعبي الجزائري وحتى في فنون الأداء ومنها المسرح، فقد تحول مرة إلى فيلسوف، وتحولت حياته مرة أخرى إلى مأساة.



الخير شوار


نص مسرحية «جحا» التي يعتبرها البعض أول نص مسرحي جزائري خالص في تاريخ المسرح الجزائري والتي كتبت بالدارجة الجزائرية بعد محاولات أخرى بالعربية الفصحى لم تنجح. ذلك النص لم يعد موجوداً، لأن كاتبه ومجسده الفنان الراحل «علالو» أتلفه مع نصوص مسرحية أخرى، وقد اعتزل العمل الفني بعد ذلك. وكأني بالفنان علالو الذي وظّف تلك الشخصية التراثية، قبيل احتفال فرنسا بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر سنة 1930 قد أعدم جحا من خلال إتلاف النص الذي لم تبق منه سوى شذرات يتكلم عنها بعض الدارسين المختصين. واحدة من المسرحيات الجديدة التي عرضت في هذا السياق هي «محاكمة جحا» للكاتب الشريف الأدرع والتي جسدها المخرج أحسن بوبريوة من مسرح «البليري» لقسنطينة مستعملا تقنية الصورة، والتأثيرات التي تبعث بها آلة التصوير والضوء، في الانتقال من مشهد إلى آخر. وفي الوقت الذي كان الجمهور ينتظر المزيد من المرح الذي صنعته المشاهد الأولى، تأخذ حياة «جحا» منحى تراجيديا، عندما ينخرط في النضال بطريقته الخاصة، ويصبح أكثر من جحا واحد، مشكلا خطرا على المؤسسات الرسمية، بل ويتهم حتى بالشيوعية ويقدم للمحاكمة. ويختار جحا في نهاية محاكمته «الشهادة» على الاستسلام ويقول في خاتمة النص المسرحي إنه اختار أن يكون شهيدا ليكون في مستوى «غواية الرواية في التراث الشعبي».

وعن توظيف تلك الشخصية بذلك الشكل التراجيدي، يقول الكاتب الشريف الأدرع: «عاد جحا الذي عاش 14 قرنا معروفاً بنوادره بصورة جديدة، وهذا دليل على أن جحا ليس نمطيا، وقد حاولت معالجته بعيدا عن النمطية حتى ولو تحولت الكوميديا إلى تراجيديا».

وغير بعيد عن مأساة جحا ومحاكماته، قدّم المخرج حسان عسوس من «المسرح الجزائري لمدينة سيدي بلعباس»، على خشبة المسرح الوطني الجزائري محيي الدين باش تارزي بالجزائر العاصمة، مسرحية أخرى تتخذ من جحا موضوعا لها، وهي «غبرة لفهامة» أو «مسحوق الذكاء» المأخوذة عن مسرحية شهيرة للكاتب الجزائري الشهير «كاتب ياسين» صاحب رواية «نجمة» الذائعة الصيت. المسرحية التي اقتبسها الكاتب يوسف ميلة وأعاد كتابتها، يتجسد فيها جحا هذه المرة فيلسوفا مختلفا تماما عن صورته النمطية إلى درجة يكاد المتلقي لا يتعرف عليها، وكأنه أصبح شخصا آخر غير تلك الشخصية الساذجة حينا والماكرة حينا آخر والتي هي في كل الحالات، هي أبعد ما تكون عن التفكير الفلسفي المعمق. وفي هذا السياق يقول المخرج حسان عسوس: «رأيت أن شخصية جحا التي وظفها كاتب ياسين ذات البعد العربي والإسلامي والشرقي عموما، تستحق العودة إليها مجددا، والمختلف هنا هو تقديم هذه الشخصية الهزلية على أساس أنه فيلسوف، من هنا تأتي الانطلاقة. وكان علينا الاشتغال على العرض المسرحي من خلال توظيف مختلف الوسائل مثل الجسد والأذن والعين وغيرها». ويضيف المخرج أنه سبق له أن اشتغل على ذات النص الأصلي سنة 1989، لكنه عاد إليه مجددا «برؤية مختلفة تماما، وهذا هو التراث العالمي الذي يتجدد، والسؤال الذي ننطلق منه هو: كيف نقدمه؟». وفكرة جحا الفيلسوف التي جاءت في مسرحية «غبرة لفهامة» تتلخص في أن جحا الذي قدّم في البداية اختراعا للسلطان يتمثل في «دابة ميكانيكية» يصبح ذلك الاختراع جناية عليه وعلى أمته، وساعتها يفكر جحا في الانتقام. جحا الذي يسميه كاتب ياسين «سحابة الدخان»، يقدم حشيشا مخدرا للسلطان الذي يشمه ويستلذه على أساس أنه «مسحوق يجلب الذكاء لمتعاطيه»، وسرعان ما يقرره للأمة وبذلك تسقط السلطنة في الإدمان وينهار العرش في النهاية.

المجتمع الجزائري الذي يصنف عادة ضمن المجتمعات غير الضاحكة أو الأقل نكتة، يحتفي بقوة في مخياله العام بشخصية جحا صانعة النكتة بامتياز، لكن جحا في المسرح الجزائري فيلسوف عقلاني مرة، ومناضل متهم باليسارية مرات أخرى، هذا ما تقوله على الأقل النصوص المسرحية التي ما زالت تعرض في الجزائر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة