التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بعيدا عن هوميروس.. قريبا من نرسيس

لم يكن الأمر يحتاج إلا إلى فكرة تبدو بسيطة، عندما حدث ذلك "الانفجار العظيم" الذي لا يحيل بالضرورة إلى النظرية الأبرز حول نشأة الكون، لكنه انفجار من نوع آخر قد يأتي على كثير من الأشياء.

الخير شوار
كان ذلك في سنة 2010، مع ظهور الجيل الرابع من هاتف "آي فون" الذي جاء حينها بكاميرا خلفية وأخرى أمامية سهّلت من عملية التواصل عبر الفيديو، والأهم أنها ألهمت الملايير بعد ذلك من خلال أجهزة متطورة لاحقة لأخذ ما لا يحصى من الصور الذاتية التي أخذت تسمية "سيلفي"، مع أن الظاهرة بدأت قبل ذلك سنين عندما أطلقت تلك التسمية "الرسمية" سنة 2002 بالتزامن مع مؤتمر دولي للتكنولوجيا، لتغزو بعد ذلك مواقع التواصل الاجتماعي وأصبح البعض يلتقط صورا له عدة مرات في اليوم وينشرها سريعا في وضعيات كثيرة حتى وهو يأخذ حمّامه اليومي.
وظهرت شبكات تواصل تقوم أساسا على الصورة، على غرار "أنستغرام" الذي يكاد يسحب البساط من الشبكات التي تعتمد على الكلام، وأصبح بذلك "نرسيس" المعروف في الأسطورة اليونانية، ذلك الشخص الذي اكتشف صورته منعكسة في الماء، فأدمن على مشاهدتها وهام عشقا بنفسه حدّ الهيام والموت، "ملهم" الكثير من الشباب في وقتنا، ومنهم كثير من الشعراء "السابقين" الذين وجدوا في صورة "السيلفي" بديلا للصورة الشعرية المركبة التي تتطلب الكثير من القراءة والوقت والتأمل وكثيرا من العزلة لم تعد متاحة في وقتنا، فاستبدلوا أقلامهم وأدوات كتاباتهم الأخرى بهواتف ذكية متفاوتة القيمة، وراحوا "يبدعون" في نشر صّور تبتعد كثيرا عن هوميروس الشاعر اليوناني الكبير الذي أبدع في تصوير وقائع الإلياذة والأوديسا باستخدام اللغة الشعرية والسرد التاريخي والأسطوري وتقترب من نرسيس الذي لم يستخدم إلا حاسّة بصره مركّزة على صورته في الماء.
ويأتي هذا المآل "النرسيسي"، بعد قرون طويلة من تطور الكتاب، بعد حياة "بدائية" استخدم فيها الاولون أولى وسائل اللغة البصرية من خلال رسوماتهم في الكهوف والجبال، كما كان الحال في منطقة الطاسيلي، للتخلص اللغة شيئا فشيئا من الصورة المجسّدة وتستقل بذاتها ويصبح الشعر أعلى درجات التعبير اللغوي منافسا للموسيقى.
وربما بلغ التطوّر منتهاه وتحوّل إلى حركة عكسية، لم يتحوّل فيها الشعر إلى موسيقى "خالصة" كما حلم الكثير من الشعراء، بل عدنا إلى نقطة البداية نحتفي بالصورة المجسّدة، وهي بالمناسبة ليست صورة لكائن خرافي أو حيوان انقرض، بل هي صور ذواتنا نلتقطها في كل حين ونتنافس على نشرها طمعا في كثير من إشارات الإعجاب من أصدقاء افتراضيين.
وفي هذا العصر السريع لم نعد نكتفي بالسلفي "الكلاسيكي" الذي بدا قديما جدا، حيث طوّر البعض التقنية، فجاء "النيكسي" الذي قد يكون صيحة أخرى في عالم السيلفي أو بديلا عنه، ويتلخص في تلك الطائرة "بدون طيار" في حجم ساعة معصم مزودة بكاميرا عالية الجودة، يطلقها صاحبها في الهواء فتأخذ له صورا من زوايا مختلفة تكون صالحة للنشر على الفور في مواقع التواصل الاجتماعي.
وربما كان حال الكثير من الشعراء "السابقين" الذين تحولوا إلى "السيلفي" كحال الشاعر العربي القديم الحطيئة الذي وقع له ما وقع لنرسيس في الأسورة اليونانية، وعوض أن يعشق نفسه، راح يهجوها قائلا:
أرى اليوم لي وجهاً فلله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله !!    

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة