لم يكن يصدّق عينيه وهو يمسك بتلك الصحيفة ويعيد
قراءة أعلى صفحة بعينها مرة بعد أخرى، ما كان يصدّق أن تلك العبارة التي تحمل اسمه
يمكن أن تطبع على الآلة وتصدر إلى جانب أسماء الأمراء والمشاهير.
الخير شوار
نسي سنين تشرده الطويل ومبيته فوق القش وراح يجوب
شوارع مدينة لندن ذهابا وإيابا دون أن يشعر بالتعب، حاملا تلك الجريدة التي نشرت إحدى
قصصه لأول مرة بإمضاء "تشارلز ديكنز" الذي بدا له غريبا و"غير طبيعي"
في ذلك السياق قبل أن يتكرس مرة بعد مرة لصبح واحدا من أهم الأسماء التي يحفظها الناس
بمختلف طبقاتهم بعد ذلك.
ربما كان في حاجة إلى تلك الكيلومترات الطويلة التي
قطعها راجلا، حتى يستوعب الصدمة الأولى، التي وضعته في منعرج حقيقي، نحو غد مليء بالوعود
الجميلة، مختلف تماما عن الماضي البائس. لقد حقق الخطوة الأصعب عندما أقنع محرري الجريدة
بجودة عمله القصصي ذاك، ولم يبق أمامه إلا متابعة الطريق بأفكار مبتكرة في كل مرة تضمن
له النشر المتواصل، وربما قاده وسواسه إلى احتمال آخر وهو أن الأصعب هو القادم وربما
تخونه "قريحته" بعد ذلك وقد أصبح "عاريا" بنصه المنشور أمام الناس
يتصيّدون زلاته وأخطائه، ربما هذا ما دفعه بعد ذلك إلى الهوس بالتفاصيل الدقيقة لشخصياته
وعوالمها، وربما هذا ما أعابه عليه بعض زملائه بعد ذلك عندما رؤوا أن قصصيه "عاطفية
أكثر من اللازم".
وبسرعة غادر الفتى تشارلز عالم البؤس والجوع، لينسج
صدقات لأول مرة مع شخصيات من المجتمع "المخملي"، وكان عليه أن يختار بعد
ذلك هويته الأدبية، بين أن يكتب عن عالمه الجديد بالطريقة المعروفة في وقته لينافس
الكثير من مجايليه يملؤون الحف بكتاباتهم ومؤلفاتهم التي تملأ رفوف المكتبات، أو أن
يستعيد عوالم طفولته البائسة بكل تفاصيلها، ولم يتردد في الاختيار الثاني رغم قسوته
وهو الذي كان يؤجج في داخله جراحا لم يبرأ منها بعد.
لم يشأ ديكنز أن يكرر قصص عوالم "البورجوازية"
في زمنه، بل اقترح قصصا من عالم لم يكن يعرفه أبناء تلك الطبقة التي تجيد القراءة والكتابة
وتسمح لها ظروفها المادية بشراء الكتب في كل مرة، وقبل ذلك بقي وفيا للصحافة التي حلم
بالاشتغال فيها طويلا، وبقي وفيا لنشره قصصه المسلسلة فيها، حريصا حد الهوس بالاشتغال
على التفاصيل الدقيقة، وكان ينشر في كل مرة وكأنه ينشر لأول مرة في حياته، فساهم في
زيادة شعبية في الصحف والمجلات التي كانت تتسابق على الفوز بتوقيعه، فكان الناس ينتظرون
مثلا مصير الطفل "أوليفر تويست" الذي ماتت والدته بُعيد ميلاده، ووجد نفسه
في ملجأ الأيتام، حيث لم تكن الوالدة ترتدي خاتما في أصبعها الأيسر مما طرح شكوكا من
أن ذلك الولد هو ابن زنا، وتواصلت الحكاية الطويلة التي حققت شهرة منقطعة النظير وكان
كثير من القرّاء يندهشون من دقة التصوير ولم يكن يدري الكثير منهم أن "أوليفر
تويست" هو نفسه تشارلز ديكنز في طفولته مع "التصرف" في بعض التفاصيل
وهو نفسه "دافيد كوبرفيلد" بشكل آخر.
وعندما كان تشارلز ديكنز يقترب من الستين من عمره،
كان يودع عالمنا في راحة مادية كبيرة، لكنه كان مسكونا بطفولته البائسة التي لم يتمكن
من القضاء عليها بكتابتها في مختلف رواياته وربما كان يحتضر وهو يفكر في تلك اللحظة
المفصلية في حياته عندما رأى اسمه لأول مرة في صحيفة.
عن جريدة "الحياة" الجزائرية
تعليقات