التخطي إلى المحتوى الرئيسي

القعدة العاصمية على أصولها.. «قهوة البهجة» تحيي تقاليد العنقى



في المنطقة المسماة «قاع السور»، عند البوابة الشرقية لحد باب الواد بالجزائر العاصمة، وغير بعيد عن «الملاهي» حيث يمرح الاطفال عند شاطئ البحر في ليالي رمضان، لا بد للعابر من هناك باتجاه باب الواد أو القادم منها أن تلفت انتباهه مقهى ليست ككل المقاهي. إنها «مقهى البهجة» أو «قهوة الصاص» كما تسمى شعبيا، نسبة إلى مؤسسها وصاحب الأصلي الراحل عبد القادر صاص، والذي تمكن من خلالها من إحياء تقليد قديم، يتمثل في إحياء سهرات موسيقية شعبية طيلة أيام رمضان، إضافة إلى المداومة على إحياء سهرات أيام الخميس ولجمعة من كل اسبوع سائر الأشهر الاخرى من السنة.

روبورتاج: الخير شوار
غير بعيد عن المقر العام المديرية العامة للأمن الوطني، يقع شارع صغير يحمل اسم «إيكوزيوم»، الذي يحيل إلى «أسطورة» تأسيس مدينة الجزائر، قبل الميلاد عندما قيل أن هرقل الإمبراطور البيزنطي الشهير مر من هنا، غير أن الشواهد التاريخية تقول إن أصل التسمية مشتق من «ايكوزيم» الفينيقية، حيث أسسها الفينيقيون في القرن الثالث قبل ميلاد المسيح. عند ذلك الشارع الصغير، تقع قهوة البهجة التي استقطبت الانظار وأصبح الناس يأتونها من كل مكان بحثا من أجل «قعدة من قعدات زمان»، والكثير منهم يحن إلى تقاليد مقاهي مالاكوف والعرايش وقهوة الرياضة وغيرها من المقاهي التي صنعت العصر الذهبي للأغنية الشعبية منذ بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما أعلن المطرب الشاب حينها الذي سيعرف لاحقا باسم «الحاج امحمد العنقا» ثورته في الموسيقى الاندلسية وتمكن من ابتكار الأغية القريب من نبض الناس العاديين والمعبرة عن حياتهم العصرية والتي لم تكن إلا «الأغنية الشعبية» التي اصبح لها شيوخها وقواعدها وتراثها الذي تجاوز الثمانين سنة لحد الآن.
وتبدو «قهوة الصاص» أو «قهوة البهجة» من بعيد بحلتها البسيطة، لكن بالجو الذي تخلقه في محيطها، حيث تتعدد كراسي الجالسين في كل اتجاه، وهم يرتشفون فناجين القهوة وكؤوس الشاي، مع قلب اللوز ومختلف المشروبات الغازية، وفيما مكبر الصوت يبث يعكس الجو داخل المقهى، حيث يؤدي أحد المطربين الشعبيين الشباب الكثير من الطقطوقات والقصائد الشعبية مصحوب بآلة المونول مع جوق يتواوح عازفوه بين البانجو والقيثار والآلات الإيقاعية.   

أحد مؤسسي المقهى: نحن متبعون ولسنا مبدعين
ومهما كان الزائر غريبا عن المكان، فسوف يتعرف على بعض وجوه الساهرين هناك، وبعضهم من شيوخ الأغنية الشعبية. وخارج المقهى كان يجلس فرج الله كمال، وهو أحد وجوه الأغنية الشعبية المعروفين في العاصمة واحد تلامذة الحاج امحمد العنقا الذي يقول عن موضوع ارتباط الاغنية الشعبية بالمقاهي من خلال هذا النموذج: «نحن متبعون ولسنا مبدعين في هذا الأمر، والظاهرة بدأت مع زمن الاستعمار، وهذا الأخير كان يمارس ضغوطا نفسية على الشعب الجزائري، لكن الفنان الجزائري الذي كانت الابواب مغلقة في وجهه لم يكن يستسلم للأمر ومن هنا جاء الفكرة، واقترح بعضهم إحياء حفلات في المقاهي الشعبية بمناسبة رمضان خاصة، وجاء ظاهرة الغناء في تلك المقاهي التي لم تكن محصورة في شهر رمضان بل تعدته إلى سائر أيام السنة، واستمر الأمر إلى ما بعد الاستقلال وأصبحت لنا الكثير من المقاهي المعروفة بهذا الفنان أو ذاك وهذا اللون الغنائي أو ذاك».
ويعدد فرج الله بعض المقاهي المشهورة في هذا الشأن بقوله: «كانت هناك قهوة المحطة، وقهوة مالاكوف، وقهوة الرياضة وكانت بجانب «دار القاضي» وتهدمت بعد ذلك. ولم تكن تلك المقاهي حكرا على الشعبي، بل كان بعضها متخصصا في أنواع موسيقية أخرى، بالقصبة والقلّال مثل ما كان الأمر مع قهوة الساسي التي كانت بجانب جامع كتشاوة، كان الفنانون يأتونها من حمام ملوان وسيدي موسى وغيرها من تلك المناطق على متن حافلة حمام ملوان التي كان سائقها يفطر مع الفرقة ثم يعودوا من حيث جاؤوا في آخر السهرة، وينزل كل واحد من الوافدين في مدينته او حيه ابتداء من الحراش ومرورا بالأربعاء وسيدي موسى وانتهاء بحمام ملوان».
ويضيف قائلا: «كنا زمن الاستعمار، نوصف انفسنا بـ»المدّاحين»، لكن مع المديح يمكن أن نمرر الرسالة التي نريدها، وكما يقال «خذ القياس يا فاهم المعنى ما بين الناس».
وعن تجربة قهوة البهجة يقول فرج الله: «هذه القهوة نحن من قام بفتحها، منذ حوالي ثمانية سنوات (سنة 2002)، مباشرة بعد زاوال «الهول الذي وقع في البلاد» (سنوات العنف التسعيني)، وقبل ذلك لم يكن لهذه المقهى أية تجربة فنية. وأذكر أن صاحب المقهى جاءني وطلب مني أن «أخدم» طيلة شهر رمضان، فقلت له أن أشتغل طيلة هذا الشهر فالأمر ليس في صالحه ماديا ولا في صالحي أنا، واقترحت عليه أن أحيي أنا الليلة الأولى ثم يأتي بالهواة من المطربين كل واحد مع فرقته لإحياء باقي السهرات، حيث تكون متنوعة ومفتوحة امام كل الموهوبين من الطاقات الشابة الذين يبحثون عن «صناعة الاسم»، وكانت البداية من مقهى كان يمتلكه نفس الشخص غير بعيد من هنا ثم انتقل إلى هذا المكان (قهوة البهجة). لقد تغيرت المعطيات عما كانت عليه في الزمن السابق عندما كان الفنان الواحد يداوم على الاشتغال في المقهى نفسه، كان على سبيل المثال فنجان القهوة الذي يباع بزوج دورو بيعه القهواجي بأربعة دورو والهامش المضاف يذهب إلى الفنان الذي يداوم على إحياء تلك السهرات».
ويستطرد قائلا: «لقد كانت غايتنا وما تزال هي خدمة الاغنية الشعبية وجعلها في تواصل مستمر مع محيطها الشعبي وخدمة الفن بصفة عموما وأعتقد أن كل هذه الأمور متوفرة في قهوة البهجة هذه التي نجحت لحد الآن في إحياء تلك التقاليد الجميلة، وتتجاوز هذه التقاليد شهر رمضان إلى سائر شهور السنة حيث تقام الحفلات  أيام الخميس والجمعة». ويعتقد «أن الجو الشعبي في مثل هذه المقاهي، يجعل القعدة أحلى بكثير مما هي عليه في القاعات والمسارح الكبرى، فأن تذهب إلى مثل تلك الحفلات فأنت تستمع فقط إلى القصائد والموسيقى، لكن هنا في مثل مقهى البهجة تجد «القصرة»، الشعبي ليس شيخا فقط، إنه كل متكامل وجو لا تجده إلا في المقهى التي احتضنته المرة الاولى وما زالت متربطة به إلى يومنا هذا. ثم أنك في المقهى يمكن أن تلتقي بأحبة فرقت بينكم السبل، وساعتها تكون المتعة مضاعفة وكل هذا الجو لن تجده في المسارح والقاعات الكبرى على أهمية الحفلات التي تقام فيها».


صاحب المقهى: هكذا جاءت الفكرة
ولئن كانت «القعدة» شيقة خارج المقهى، فإن الأمر داخلها اكثر حميمية، والجمهور من مختلف الاجيال يجلس باهتمام بالغ من أجل سماع مختلف الالحان الشعبية التي يؤديه المطرب الشاب الذي كان ضيف تلك السهرة، ولا يتردد البعض في الرقص على الطريقة العاصمة غذا تطلب اللحن أو المقطع الموسيقي ذلك. وتتم القعدة وسط ديكور تزينه صور مختلف الفنانين الشعبيين الكبار على غرار العنقا والقروابي وغيرهما.
ويحرص صاحب المقهى محمد صاص على تقديم الطلبات بنفسه كأنه صاحب عرس دائم، وعندما نسترقه لبعض الوقت من أجل الحديث عن هذه التجربة، لا يتردد بكل أريحية ويقول: «صاحب فكرة «قهوة البهجة» بشكلها الحالي، هو الوالد عبد القادر صاص رحمه الله، وهو من وضع هذا التقليد الجميل بداية من سنة 2002، ومنذ ذلك الوقت حرصنا على تنظيم قعدات الشعبي حيث يأتي إلينا الاحباب من كل جهة ويجتمعون هنا على أنغام الاغنية الشعبية».
ثم يضيف: «نشتغل في شهر رمضان بشكل يومي حيث تتواصل السهرات بهذا الريتم، اما في غير شهر رمضان فإننا نحرص على تنظيم حفلات أيام الخميس والجمعة من كل أسبوع، يأتينا الهواة والمحترفون على حد سواء، ونحن نفتح المجال للجميع، أما عن الحقوق المادية للفنانين فنحن نتفق منعهم «شوي منّا وشوي منّا»، وغايتنا هي إمتاع الناس وخلق جو فني وفي الحقيقة ليست لنا منفعة مادية فالأمر أشبه ما يكون بحال «شيعة بلا شبعة»، لكننا نسعد كثيرا عندما نرى الاحباب يلتقون هنا وبعضهم لم ير صديقه مدة قد تتجاوز العشر سنوات إلى العشرين سنة أحيانا، ومع هذا التقليد عاد للمقهى نكهتها الأصلية وأصبح الامر معها «حجة وفرجة» كما يقال، وعلى أنغام الشعبي يتناول الاحباب  والأصدقاء القهوة والشاي وقلب اللوز».
ويعود صاص مرة أخرى إلى جذور التجربة ويقول: «عندما تجاوزت الجزائر سنوات الهول (العنف التسعيني)، أردنا خلق جو فني ، والحمد لله فإن التقليد الفني هذا نجح وأصبح الناس يأتونا من كل جانب، بمن فيهم بعض الوزراء الذين جلسوا هنا وتمتعوا بالقعدات الشعبية الاصيلة،  ونحمد الله على هذه النعمة فليست لنا مشاكل مع الجيران والامن متوفر، وكانت العائلات تجلس مقابل المقهى هناك في تلك الطحطاحة التي تحولت الآن إلى ورشة».

تنويه: أنجز هذا الروبورتاج في رمضان 2011

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة