دخل جمهورية أفلاطون ويوتوبيا توماس مور و«مدينة الشمس» لتوماسو كامبانيلا،
ومدينة أبي نصر الفارابي الفاضلة، وركب الناقة مرافقا لعبد الله بن قلابة ودخل مع إرم
ذات العماد، ورأى معه القصور المعلقة وأعمدة الزبرجد والياقوت وقال معه: «الحمد لله
الذي أدخلني الجنة».
إحدى لوحات الفنان فان غوخ |
الخير شوار
فتح عينيه لأول مرة، بعيدا عن صخب المدينة، وكان في بداية عهده بالحياة يعتقد
أن الوجود مختصر في قريته الصغيرة وتلك الأرض الممتدة التي تنتهي بالجبال في كل الاتجاهات،
وأن شمس الصباح تسقط مساء في الفراغ وراء الجبل، ثم تتسلل ليلا إلى المشرق، لتكون في
الموعد المضبوط صباحا. ورغم رؤيته للإسفلت وتلك الكائنات الحديدية تمر أمامه صباح مساء،
فلم يسأل عن ماهيتها وضنها مجرد أنواع من الأنعام التي ترعى في الحقول الممتدة.
ولما أخذه والده مرة إلى طريق الإسفلت وامتطى معه إحدى الكائنات الحديدية التي
عرف بأن اسمها «حافلة» وشقت بمن فيها الجبال وأدخلتهم عالما غريبا اسمه «سطيف»، اكتشف
عالم المدينة بصاحبات «الملاية» و«العجار» وسافراتها وأناسها وأسواقها وعماراتها الجميلة،
واشترى له والده من هناك الفول السوداني (الكاوكاو)، وارتبطت تلك الذكريات البعيدة
في ذهنه بمذاق تلك الفاكهة الغريبة الذي بقي يسكن الذاكرة، ومازال إلى الآن وعند زياراته
إلى تلك المدينة يشترى من تلك الأكلة لكنه لا يجد فيها ذلك الطعم الأول لسبب ما زال
يجهله، ولم يفق الأمل بعد في الحصول يوما على ذلك المذاق المفقود.
ولم تتوقف حكايته مع المدن عند ذلك الحد، فقد عرف الكثير من المدن مسافرا في
الجغرافيا وفي التاريخ، ورحل مع ابن بطوطة إلى مدنه العجيبة، وعاش في المدن الفرعونية
القديمة مع روايات نجيب محفوظ التاريخية التي تكببها في بداية رحلته الأدبية، وخبر
القاهرة وأماكنها العتيقة مع كتابات محفوظ اللاحقة من «زقاق المدق» إلى «قصر الشوق»
و«السكرية» و«الجمالية»، ولم يجد أعجب من مدينة «المنامة» ولا يقصد بها عاصمة مملكة
البحرين، وإنما تلك التي تدور فيها أحداث راوية «ألف وعام من الحنين» لرشيد بوجدرة،
فتلك المدينة المشؤومة تختصر كل المآسي، وصاحبها شيدها على «طريق الحرير» واعتقد بأنها
ستكون أسعد من المدن الفاضلة، لكن لسوء حظه، فقد تمكن الرحالة البرتغالي فاسكو ديغاما
من اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح عبر جنوب إفريقيا بمساعدة بحار عماني شهير و«شعرور»
اسمه أحمد بن ماجد، وبذلك فقد طريق الحرير معناه بالكامل وبقيت تلك المدينة تجتر العزلة
والتخلف، جعلت مؤسسها ينتحر شنقا على غصن شجرة، معترفا بعقم تلك المدينة الأبدي.
ثم دخل جمهورية أفلاطون ويوتوبيا توماس مور و«مدينة الشمس» لتوماسو كامبانيلا،
ومدينة أبي نصر الفارابي الفاضلة، وركب الناقة مرافقا لعبد الله بن قلابة ودخل مع إرم
ذات العماد، ورأى معه القصور المعلقة وأعمدة الزبرجد والياقوت وقال معه: «الحمد لله
الذي أدخلني الجنة»، وفي كل مدينة كان يدخلها كان يبحث عن طعم الفول السوداني المفقود.
ورأى نفسه أخيرا في قرية «ماكوندو» مع «مائة عام من العزلة» لغابريال غارسيا ماركيز
التي أعادته إلى ذاته واكتشف مع تقدمه في السن أنه يكتب من مخيال قرية لا من مخيال
المدينة، وبالمقابل لم تفقد مدينته الأولى سحرها الأسطوري وسلطتها عليه.
تعليقات