استقبلت مدينة تيميمون (1400 كيلومتر جنوب الجزائر
العاصمة) العام الجديد بغير الهدوء الذي تعودت عليه طيلة السنة، ويتعلق الأمر بالحركة
التي أحدثها مهرجان فن الأهليل (بتشديد اللام الأولى) في طبعته الخامسة، إنه الاسم
الغريب الذي يعبّر عن ذلك التراث الغنائي الشفوي الذي أدرجته منظمة اليونيسكو منذ سنين
ضمن التراث العالمي.
الخير شوار
تألقت في هذه الطبعة من المهرجان مجموعة من الفرق
المحلية، وعلى رأسها فرقة «طمين». وعادت الجائزة الثانية لفرقة «التراث في أمان»، والثالثة
لفرقة «مولاي يعقوب» وتنتمي الأخيرة إلى بلدة أولاد سعيد، غير بعيد عن واحة تيميمون
عاصمة هذا التراث الروحي الفريد. وتمكنت تلك الفرق من انتزاع الاعتراف من ضمن 24 فرقة
دخلت المنافسة، واستغل المهرجان من أجل تكريم بعض شيوخ هذا الفن ويتعلق الأمر بسوداني
محمد بن مسعود الذي توفي قبل نحو ثلاثة أشهر والشيخ الناجمي محمد الذي عمل بشتى الوسائل
منذ نحو نصف قرن على حفظ تراث أهليل بتلك المنطقة.
الاسم الغريب لهذا الفن يفسر مرة على أنه نحت لعبارة
«أهل الليل»، ومرة على أنه مشتق من كلمة التهليل، إضافة إلى تأويلات أخرى. يقول الكاتب
الصحافي الجزائري محمد بن زيان، الباحث في هذا المجال : «اسم الأهليل يحيل لعدة تأويلات
مرتبطة بالمستندات التراثية والخصائص الأنثربولوجية، فهناك تأويل يربط الاسم بالليل.
ويطلق في المنطقة اسم (أزلوان) على أهل الليل لأن القصائد تؤدى في الليل. وتأويل آخر
يربط التسمية بالهلال وانتظاره مع مطلع كل شهر وهو ما يحيل للعلاقة مع الزمن، وتأويل
ثالث يربط التسمية بالتهليل (لا إله إلا الله) وهو يتطابق مع الحالة الصوفية الممتدة
في المنطقة والمكتنفة لأداء فرق الأهليل. إنها حالة تربط بين شعوب الصحراء الكبرى بإيقاعات
تجمع بين المكونات الأنثربولوجية المختلفة التي انصهرت في بوتقة الانتماء الإسلامي.
وللأهليل نزعات تمثلها مدارس لها نزعتها الصوفية بمنطقة قورارة بالجنوب الجزائري».
ويؤكد الباحث أن هذا التراث هو جزء «من التراث العاكس لتفاعلات التراكمات التاريخية
في تشكيل الهوية. والتعاطي مع الأهليل ينطلق من زوايا متعددة ولكنها تتقاطع عند الخصوصيات
التي حدد الباحثون تعلقها بالموسيقى التقليدية".
والأهليل هو تراث إنساني جزائري كبير، كان قد تعرض
للنسيان والإهمال طويلا إلى أن أدرجته منظمة اليونيسكو منتصف العشرية الأولى من القرن
الحادي والعشرين، ضمن نفائس التراث الإنساني غير الملموس. وكانت تلك فرصة لإعادة اكتشافه
من جديد بعد أن كان البحث فيه ومحاولة حفظه حكرا على مجموعة قليلة جدا من الباحثين
ذوي الإمكانيات المادية المحدودة مثل الأنثربولوجي والروائي الجزائري الراحل مولود
معمري الذي كانت أبحاثه بوابة لاعتراف «اليونيسكو» بهذا الفن بعد أكثر من 15 سنة على
رحيله سنة 1989. وبحسب الباحث محمد بن زيان، فإن ما يميز الأهليل هو الإيقاع الذي يقول
إنه «يتقاطع مع إيقاعات أخرى ويفترق فمن الآلات التي تعزف عليها الإيقاعات نجد الأمزاد
الآلة التوارقية ونجد البندير والدف والناي، كما نجد البانجو والكمان والدائرة تحضر
كشكل في الأداء ويتم الأداء وقوفا. أما الأداء جلوسا فإنه يسمى تقرابت».
وهذا التراث يتراوح بين الإنشاد والشعر الشفوي والموسيقى
والرقص، بل هو مزيج فريد من كل تلك الفنون، تزخر به واحة تيميمون الجزائرية وما جاورها
دون غيرها، وكانت طقوسه تقام في المناسبات الدينية المحلية وبعض الأعراس، قبل أن ينال
هذا الاعتراف العالمي ويصبح له مهرجانه السنوي. ويرتبط هذا الفن بالنمط المعيشي الزراعي
لتلك المنطقة في قلب الصحراء الكبرى، ومن آلاته «القمبري» وهي آلة وترية تقليدية، ومجموعة
صوتية بعشرات الأفراد يتحركون واقفين كتفا لكتف في أشكال دائرية، ويأتمرون برئيس الفرقة
الذي يقف وسط الدائرة. ويشبه بعض الباحثين هذا التراث بموسيقى «البلوز» المعروفة التي
غناها العبيد. ويعتقد كثير من الباحثين أن هذا التراث هو مزيج لعدة ثقافات تزاوجت في
تلك المنطقة النائية، التي سكنتها قبيلة زناتة الأمازيغية التي ما زالت لغتها متداولة
هنا، ليسكنها في مرحلة لاحقة اليهود ثم بعض الإشراف القادمين لأسباب تاريخية من المغرب
الأقصى الذين يسمون «المرابطين»، لتمتزج ثقافات كل هؤلاء بالثقافة الأفريقية التي أتى
بها «السودانيون» (نسبة إلى السودان الغربي وهو دولة مالي الحالية)، الذين كانوا ضحية
لتجارة العبيد ضمن محور منطقة الساحل الأفريقي (ضفاف الصحراء الكبرى) والشمال الأفريقي
حيث البحر المتوسط وصولا إلى الأندلس. وبحكم هذا التمازج العجيب أصبحت تلك الواحة تسمى
«طريق الملح» العملة القديمة التي كتب عنها الكثير ومنهم الروائي الليبي الطوارقي إبراهيم
الكوني.
تعليقات