التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أرنستو ساباتو: «ملاك الظلمات» يخرج من «النفق»



قرب مدينة بيونس آيرس، في منزل صغير ومتواضع بمنطقة سانتوس لوغاريس، توفي شيخ يكاد يبلغ عمره المئة. إنه الكاتب الأرجنتيني البارز أرنستو سابتو، الذي تزامن رحيله مع رحيل أبرز شاعر في الشيلي بعد بابلو نيرودا، وهو غونزالو روخس، الذي غادرنا عن عمر يناهز الـ93 سنة.
ساباتو 

الخير شوار
لم يشأ القدر أن يحتفل الروائي أرنستو ساباتو بعيده ميلاده المئة، في بيته الصغير ذاك، وغادرنا على مقربة من هذه الذكرى. ومع أن رحيله جاء طبيعيا وقد عمّر طويلا، إنه أنه جاء في سياق يدعو إلى إعادة التفكير في الموضوع من وجهة تتعلق بالنهايات والبدايات. وأرنستو ساباتو الذي سبق له وأن فاز بجائزة سرفنتس سنة 1984 وهي أهم جائزة للأدب المكتوب بالإسبانية وتعادل في قيمتها أو تفوق جائزة نوبل للآداب لدى الكتّاب والقراء الناطقين بهذه اللغة، وكان من بين الفائزين فيها الشاعر الشيلي البارز غوزالو روخس الذي رحل قبله بأيام معدودات. إنها نهاية جيل أدبي جمع الكاتبين الراحلين حديثا إضافة إلى بابلو نيرودا وخورخي لويس بورخيس وخوليو كورتاسار وغيرهم.
ولئن برز أرنستو ساباتو ضمن نفس الفترة التي عُرف فيها مواطنه خورخي لويس بورخيس ولو أن الأخير كان يكبره ببعض السنين، إلا أن التيار لم يكن يمر بين الرجلين، وربما لعبت الحسابات الشخصية و»مشكلة المعاصرة» وعقدة الندية دورا في الموضوع. ووصلت العقدة بين الرجلين إلى حد السخرية، حيث كان ساباتو من عاشقي كرة القدم وكان بورخيس كارها لها، وبمناسبة إحدى دورات كأس العالم صرّح بورخيس بأن كرة القدم هي لعبة الأغبياء. فردّ ساباتو بالقول أن حكم بورخيس نابع من كونه لم تلمس رجلاه الكرة في حياته.
ولو اعتمدنا مقياس الكم، فإننا نُصدم إذا عرفنا أن كاتبا مهما وكبيرا كساباتو لم يصدر سوى ثلاث روايات، طيلة حوالي ثمانية عشريات كاملة من التواجد على الساحة الادبية، ورواياته الثلاث هي «النفق» التي صدر سنة 1948، ثم «أبطال وقبور» التي صدرت سنة 1961، وأخيرا «ملاك الظلمات» سنة 1974. وبعد صمت طويل كتب «قبل النهاية» وهي وصيته الأدبية والفكرية التي كتبها سنة 1999. ورغم أنه أصدر هذا الكم القليل جدا من الكتب، إلا أن قيمتها الادبية جعلته في طليعة الكتّاب العالميين، وهو الذي تعامل مع نصوصه بالتمزيق والمحو أكثر مما تعامل معها بالنشر والاحتفاء، ولو نشر كل ما كتب لربما كان من أكثر الكتّاب غزارة.
وهذا الكاتب الاستثنائي، جاء من حقل العلوم الدقيقة، وهو الذي زاوج بين العلوم الفيزيائية والكتابة الادبية، وجاء من حقل يعتمد الصرامة العلمية التي يكاد فيها الشك الديكارتي يتحول إلى شك مرضي، وربما لهذا السبب لم يسمح ساباتو للناس إلا بقراءة تلك النصوص القليلة جدا. ومع ذلك استمرت قسوته على نصوصه المنشورة، والتي تكاد تصل في حدها تلك التي مارسها ضد نصوصه الكثيرة الممزقة، وربما كان القارئ محظوظا عندما سهى شك ساباتو قليلا وسمح لتلك الروايات القليلة بالمرور إلى القارئ بمختلف اللغات. وهو الذي بقي بعد ذلك يصرح عبر بعض الأحاديث الصحفية التي أجراها أن نصوصها ينقصها عنصر التشويق ولا ينصح الناس بقراءتها، ومع ذلك ظل القارئ يعجب بتلك النصوص الخارقة التي جعلته في مقدمة الكتّاب الإنسانيين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة