لوحة تمثل عمار بلحسن |
عمار بلحسن واحد من كتّاب الجزائر الذين رحلوا في عشرية تسعينات القرن العشرين الدموية، لكن موتتة كانت مختلفة عن تلك الموتات المجانية، فقد أمهله المرض الخبيث الذي أصابه، لان يؤرخ لتلك النهاية بطريقة مبدعة "يوميات الوجع"، بعد أن أبدع قصصا قصيرة كثيرة، وكتبا فكرية تجاوزت الوجع الفردي الذي عانى منه طيلة حياته القصيرة نسبيا إلى الوجع العام وسط ذلك الجو الثقافي الصحراوي الذي شرّحه بعمق في كتبه المنشورة والتي لم تنشر بعد. الخير شوار "تباً لك يا وطني... بلاد الألم العريض.. لم يعرف فنانوك وشرفاؤك سوى الاغتيال أو الموت بالسرطان وحيدون في مستشفيات نتنة، معزولون إلا من حنينهم وآهاتهم"، ذلكم هو مقطع من كتاب "يوميات الوجع" التي دونها القاص والسوسيولوجي عمار بلحسن الذي رحل عنا في قمة نضجه، متأثرا بأوجاع السرطان وهو في سن الأنبياء، عمار بلحسن ذلك القاص الجميل، والصوت النشاز (بالمفهوم الإيجابي)، في المشهد السبعيني الغارق في الأيديولوجيا بمفهومها النضالاتي المسطح، والمفرغ من أي محتوى جمالي، وقد رحل ذلك المبدع في أحلك أيام البلاد عندما بدأت آلة الموت تحصد عشرات الأرواح، وتمكن منه المرض الخبيث يوم 29 أغسطس 1993، لكنه قبل ذلك تمكن من مقاومة الأوجاع بالأدوية المسكنة، وأتم كتابة "يوميات الوجع" التي صدرت بعد موته عن منشورات التبيين للجاحظية، ثم عن منشورات anep في السنوات الأخيرة. كانت قطرات المصل الموصولة بذراعه تسقط، وتكبر مع الأيام لتتحول إلى ما يشبه قطرة ماء المستخدمة في التعذيب، ويستعيد مشاهد من ضحايا المرض من الأصدقاء، ونستعيد تلك المشاهد من خلال يوميات وجع عمار: "كاليغرافيا للصديق الرسام محمد خدة (توفي بالمرض اللعين 1991) ثم "كلمات للأخ والصديق طالب عبد الرحيم (توفي في باريس في أفريل بالمرض)، ثم "وردة لروح الصديق جليد أمحمد (شاعر ورسام... وصديق توفي بالداء الخبيث1991)، ولا تتوقف القائمة عند هؤلاء الأقربين لتضم أشباهه في محنة المرض من الفنانين العالميين المعروفين، وربما كانت القائمة ستطول لو أمهل المرض عمار أياما وربما أشهرا أضافية، لكن الساعة توقفت في نهاية أغسطس 1993، ومعها اكتملت تلك التجربة الإنسانية والإبداعية الفريدة التي خلّت ثلاثة مجموعات قصصية قمة في التفرد، متجاوزة لما سبقها، وحية باستمرار إلى درجة ورّطت أصحاب النصوص القصصية الذين جاؤوا بعده. وقبل ذلك تستعيد الذاكرة المتعبة المقاومة للوجع بالأدوية المسكنة وبالكتابة أيضا، صورا من الطفولة القاسية، التي بدأت في لحظة الميلاد يوم الثالث عشر من فبراير- شباط 1953 في منطقة مسيردة بولاية تلمسان قبيل اندلاع الثورة التحريرية الكبرى، في ظروف صعبة عرفها الشعب الجزائري على العموم، وكان المنطق يقول بأن الطفل عمار الذي لم يتلق في حينه تعليما منظما سيتحول إلى شخص عاد مثل كل أقرانه والأكبر منه سنا من بني جلدته، لكن الإرادة والعبقرية لا تعترف بقوانين المنطق، بل لها منطقها الخاص، وجاءت تلك المسيرة العلمية العصامية التي توجت بدكتوراه في علم الاجتماع الثقافي، وكتب عديدة في الفكر وعلم الاجتماع منها "الأدب والإيديولوجيا"، و"أنتلجنسيا أم مثقفون"، وأخرى تنتظر خروجها من أدراج الروائي الطاهر وطار مثل كتاب "كشف الغمّة في هموم الأمّة" وفق الوصية التي أوصى بها الكاتب الراحل عمار بلحسن، بأن تبقى كل تركته الفكرية والأدبية في عهدة صاحب رواية "اللاز"، وبثلاثة مجموعات قصصية هي "حرائق البحر"، ثم "الأصوات" وأخيرا "فوانيس"، تلك التجربة القصصية المتفردة التي اقتربت فيها لغة السرد بلغة الشعر بكثير من العمق الفني، وبقيت تجربة غير مكررة لم تنل حظها من الاهتمام بعد، لكن الراحل لم ينشر ولا رواية واحدة، ولو فعل لكان متجاوزا للتجارب التي سبقته وللكثير من التجارب التي جاءت بعده. عمار بلحسن انطفأ مع بداية تسعينيات القرن العشرين في زمن تساقط فيه الكتّاب والمفكرون والفنانون الواحد تلو الآخر، بفعل الرصاص زمن الأزمة الدموية التي عصفت بالبلاد أكثر من عشر سنوات، وبعد الرحيل القسري إلى الضفة الأخرى بحثا عن "حياة جديدة" لكنه رحل إلى عالم آخر، واستسلم للسرطان الذي قاومه ببسالة وهو يغالب الألم بالكتابة الشجاعة وخلّف لنا كتاب "يوميات الوجع" الذي أعيد طبعه أكثر من مرة، وفيه محاورة مؤلمة بين ذات كاتبة مبدعة ومرض خبيث، ورغم أن المرض تمكن من صاحبه إلا أن عمار يكون قد تغلب على السرطان لأنه ترك أثرا لا يمكن لأي سرطان أن يقتله، وهو تلك الوثيقة الأدبية الفكرية القاسية، التي صورت الروح في أصفى تجلياتها، والمرض يطهرها بشكل كلي، وتزداد قيمة ذلك الأثر النادر إذا علمنا أن كاتبه هو في الًأصل فنان من طراز نادر، كتب القصة القصيرة في زمن الخطابات الإيديولوجية والبيانات السياسوية الرعناء، ولم يتلطخ قلمه بما تلطخ به الكثير من مجايليه الذين ماتوا أدبيا رغم أنهم استمروا بعده "إلكلينيكيا" مدة طويلة من الزمن وشتان، بين كاتب حي حتى ولو فارق الحياة جسديا، وكاتب ميت حتى ولو بقي جسديا بين الناس. لقد كتب عمار بلحسن "حرائق البحر" في الزمن "السبعيني"، ولم يتلطخ بالخطابات السياسوية السطحية الموسومة بالإيديولوجية، لكنه كان يعلم ما هي الإيديولوجية، جيدا، وقد خلف لنا من بين كتبه، كتيب صغير في الحجم صدر في طباعة شعبية زهيدة الثمن، هو "الأدب والإيديولوجية" وبدا فيه، "مثقفا عضويا" بمفهوم المصطلح، لكنه سبق زمنه بالفصل بين الإيديولوجية والفن، التي حولت الكثير من مجايليه إلى أشباه أدباء، وأشباه مناضلين وبيّن الزمن بعد ذلك بأنهم أبعد الناس عن الادب وأبعدهم عن الإيديولوجية الحقيقية ويا للمفارقة. لقد غاب عمار مدة طويلة من الزمن، لكنه يعود هذه المرة من خلال الملتقيات العلمية التي تبرز قيمته الأدبية والسوسيولوجية الكبيرة، وفي وقت لم يخلف فيه إلا ثلاث مجموعات قصصية غاية في التميّز يتأسف الكثير من محبيه لأنه لم يكتب رواية وحدة، وإلا كان من أبرز الروائيين، لكن قيمة عمار لا تلكم في قصصه فقط، ولا في مجمهوداته السوسيولوجية ونقاشاته الثقافية الجريئة فقط، بل قيمته تكمن في تلك التوليفة الإنسانية التي طبعت إنتاجه كما طبعت مسيرة الحياتية القصيرة زمنيا والكبيرة من حيث أثرها الذي مازال متواصلا وسيبقى كذلك عند مستقبل الأجيال، إنه عمار بلحسن تلك العلامة الفنية الرفيعة التي حاورت الإيديولوجية بروح نقدية كبيرة، ولم تقتلها تلك الشعارات الجوفاء التي قتلت الكثير من الناس المحسوبين على الفن والفكر. لقد انطلق عمار من واقع صعب وعاش في حالة ثقافية شرّحها بعمق في كتبه الفكرية والعلمية، ووصل به الأمر إلى وصفها بالصحراء بالمفهوم السلبي التي لا نبات ولا حياة فيها، وبقي رغم قساوة تلك الصحراء يقاوم الجفاف ووجع السرطان، ولم يستسلم إلا مع استسلام الروح إلى بارئها ذات صيف من عشرية تلونت بلون الدم، وفي يوم دفنه كانت المقابر مليئة بجثث ضحايا ذلك الواقع الدموي الذي بقي طويلا، وعندما جفت تلك الدماء نستعيد وجع عمار في كل مرة مع كتابه- الشهادة "يوميات الوجع"، ومع الواقع الذي مازال متصحرا رغم جهود عمار والذين كانوا معه والذين جاؤوا قبله وجاءوا بعده، من الذين حوّلوا أوجاعهم الفردية إلى فن خالد. |
تعليقات