لافت عدد الأديبات الجزائريات اللواتي ظهرن في الساحة الثقافية، وبشرن بمستقبل واعد، ثم اختفين فجأة ولم يعد لهن من ذكر. قليلات فقط هن اللواتي اكملن الطريق وغالبيتهن كان لهن حظ الخروج من البلاد، حيث وجدن انطلاقتهن وشهرتهن ايضا. لماذا الكاتبات، وهل للأنثى الأديبة خصوصية تختلف عن زميلها الأديب في الجزائر؟
الخير شوار
زكية علاّل، كاتبة صدرت لها في المدة الأخيرة مجموعة قصصية بعنوان يحمل أكثر من دلالة هو «لعنة المنفى». وقد كتبت بعض الصحف المحلية تقدم المجموعة القصصية تلك، وأعتقد الكثير من الكتاب اليانعين، أن الأديبة حديثة العهد وتنتمي إلى موجة الكتابة الجديدة لكاتبات دون العشرين من العمر، وهي الحساسية التي يمكن تسميتها «جيل 11 سبتمبر (أيلول)»، الجيل المعولم الذي نشأ مع الشبكة العنكبوتية العالمية، ولا يعترف بالحدود الجغرافية. لكن الضليعين بعالم الأدب الجزائري، يدركون أن الكاتبة زكية علال، إنما تنتمي إلى ما قبل جيل 5 أكتوبر (تشرين الأول) 1988.
القارئ غير العارف يعتقد أن المنفى الذي قصدته الكاتبة هو الخارجي المعروف، لكنها جاءت من منفى آخر، هو الداخلي الذي بقيت فيه سنين طويلة بعد أن صدرت لها مجموعتها «.. وأحرقت سفينة العودة». ولئن عادت إلينا القاصة زكية علال من ذلك المنفى بمجموعة قصصية، فإن عديدات من الكاتبات الأخريات أبتلعهن ذلك المنفى، وطواهن النسيان بعد أن شاركن في صناعة المشهد الأدب الجزائري. في الجزائر ظاهرة غريبة تعاني منها الأقلام النسائية على وجه الخصوص، وهي الانسحاب إلى الداخل وبطريقة مفاجئة تماما. فكثيرة هي الكتابات النسوية التي تظهر في كل مرحلة، لكن القلة فقط من واصلن الطريق، فبعد جيل المؤسسات للكتابة الأدبية النسائية، (زهور ونيسي، جميلة زنير، زليخة السعودي وغيرهن)، مع تفاوت موهبة كل منهن، ظهرت أجيال أخرى من الكاتبات بعضهن كانت تمتلك موهبة حقيقية، لكن الكثير منهن لم تعد موجودة إلا في أرشيف الصفحات الثقافية للصحف اليومية والأسبوعية. ففي بداية التسعينيات ظهرت كاتبتان من خلال أسبوعية «الحياة» الجزائرية التي كانت تصدر في مدينة قسنطينة في شرق البلاد، وهما فضيلة الفاروق ونورة مناصرية. وكانت فضيلة الفاروق التي تكتب عمودا جريئا بعنوان «همسات أنثى» تتكلم عن كاتبة من الجيل الذي سبقها هي حمامة العمّاري، وتقول بأنها تعلمت منها الكتابة. ولكن سرعان ما اختفت فضيلة الفاروق، وانسحبت إلى الداخل، وقد تزوجت بعد ذلك ويقال إنها تشتغل في ميدان التعليم، ولا أذكر أنها نشرت كتابا قبل أو بعد ذلك. واليوم هاجرت فضيلة الفاروق إلى لبنان وتزوجت هناك ونشرت روايات في «دار الفارابي» و«دار رياض الريس»، وكتبت في صحف دولية، في حين أن زميلتها التي ارتبطت ببداياتها الكاتبة نورة مناصرة، هاجرت إلى الداخل ولا نعرف الآن عنها شيئا، تماما مثلما حدث مع حمامة العماري وأخريات.
الغريب في أمر المشهد الأدبي النسائي في الجزائر، أن الكاتبات اللواتي أصبحت لهن أسماء في المشهد العربي بدرجات متفاوتة كلهن تقريبا هاجرن إلى الخارج، على غرار أحلام مستغانمي التي تزوجت من الصحافي والكاتب اللبناني جورج الراسي في ثمانينات القرن العشرين، ثم زينب الأعوج زوجة الروائي واسيني الأعرج التي درست أولا في دمشق، ولما اشتدت الأزمة الأمنية في التسعينيات هاجرت إلى أوروبا. وهناك الشاعرة ربيعة جلطي زوجة الروائي أمين الزاوي التي درست كذلك في دمشق، وبقيت عدة سنوات في اوروبا أثناء الأزمة الأمنية وفضيلة الفاروق التي استقرت في بيروت، وما عدا ذلك فإن الكثير من المواهب الحقيقية التي كانت تبشر بخير اختفت بشكل مفاجئ بعد أن كتبت نصوصا جيدة، والغريب في الأمر أن بعضهن تزوج من أدباء أو ناشطين في الحقل الثقافي.
لكن المتتبع للساحة الأدبية الجزائرية في الثمانينات والتسعينات يذكر جيدا موهبة أدبية هي الشاعرة نجاح حدة، التي لم نعد نعرف عنها شيئا، ويذكر كذلك القاصة رندة مكاوي التي كانت تكتب القصة القصيرة بشكل جيد ولم يعد أحد يذكرها الآن، أو القاصة سكينة مرباح أو الشاعرة سعيدة هرباجي التي كانت تكتب القصيدة النثرية وتنتج بعض البرامج الإذاعية، أو القاصة التي كانت تكتب باسم مستعار وهي «غلواء الأديب»، أو الشاعرة التي كانت مشاكسة وهي تتخذ من اسم «بنت الثورة» إمضاء لها وقيل بأنها أصبحت تشتغل حلاقة وطلقت الكتابة الشعرية. وكذلك هناك الشاعرة خليدة وهاب التي كانت تكتب شعرا رقيقا على الطريقة الكلاسيكية خال من الكسور وبلغة سليمة. وهي كاتبة برزت وهي ما تزال في المرحلة الثانوية وكانت تبشر بموهبة حقيقية، لكنها اختفت تماما، وبقيت مجرد ذكرى طيبة في أذهان ذوي الذاكرة القوية، وغيرهن كثير.
قد تكون المأساة التي تعترض تطور مسار المواهب الأدبية في الجزائر، هي لعنة ثنائية المنفى الداخلي والخارجي. ومن سخرية الأقدار أن يكون المنفى الخارجي أرحم من نظيره الداخلي، فالأول تستمر من خلاله الكاتبة، وتصنع لها اسما إن كانت ذات موهبة حقيقية، أما المنفى الداخلي فهو يؤدي إلى الموت البطيء وفي صمت. فكم التهم هذا الأخير من كاتبات حقيقيات؟! والغريب في الأمر أن الصمت هو سيد الموقف، فلا أحد سأل عن ذلك المصير التراجيدي، وكأن في الأمر تواطؤ على قبر تلك المواهب التي كانت تبشر بالخير، فابتلعتها غربة الأوطان، وقديما أكد أبو حيان التوحيدي إن أغرب الغرباء، من كانت غربته في وطنه.
تعليقات