التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فيروز: فنانة فوق السياسة

فيروز

بعد غياب دام حوالي عشرين سنة عادت الفنانة فيروز إلى دمشق، التي بدأت منها رحلتها الفنية الطويلة، لكن عودتها هذه لم تكن فنية فقط، ولم تكن سياسية مثلما أرادها الجدل الذي رافق رحلتها، وإنما كانت فوق السياسة مثلما كانت طوال مسيرتها الفنية المتميزة.

الخير شوار
في بؤرة تعج بالسياسة التي تمتزج أحيانا بالفن، صنعت الفنانة فيروز الاستثناء برحلتها الدمشقية الأخيرة، فليلة الاثنين الماضية صدعت فيروز التي تجاوزت عقدها السابع بكثير من الرشاقة، وتمكنت بلغتها الفنية من تحدي محترفي السياسة في بلدتها، بل وأخلطت كل الأوراق من جديد في العلاقة الشائكة بين سوريا ولبنان، وتمكنت سوريا باستعمار الورقة "الفيروزية" أن تسجل هدفا ثمينا في الحلبة السياسة باستعمال ورقة الفن في بداية احتفالية "دمشق عاصمة للثقافة العربية"، وفي منطلقة حيث يخلط الفن بالسياسة تربعت السيدة فيروز على العرش وبقيت تصنع التفرد حتى وهي في سن الثالثة والسبعين، والفنانة التي اسمها في الأصل نهاد حداد انتظرت شهر ديسمبر 1946 لتتمكن من الالتحاق بمعهد الكونسرفاتورا الوطني، ويتم تقييد اسمها في "صف محمد فليفل" بدون أجر لتدرس الإنشاد والغناء و"الصولفيج" ثم التحقت بكورس الإذاعة بأجرة شهرية هي مائة ليرة لبنانية وعندها برزت لديها مشكلة الاسم الفني واتفق على اختيار اسم فيروز، وكان الذي اختار اسم "فيروز" هو الفنان الراحل حليم الرومي والد ماجدة الرومي، الذي كان مقتنعا بأن ذلك الصوت يمكن أن يتلون بالشرق مثلما يتلون بالغرب، وهي المعجزة التي حدثت فعلا وكانت فيروز جسرا بين حضارتين ولونين فنيين وبقيت كذلك حتى وهي في خريف العمر، ومما رسخ ذلك الاتجاه هو التقاءها بالفنان الراحل عاصي الرحباني، ومدرسة "الرحبانية" على العموم التي دام عطاؤها إلى الآن مع مختلف أجيالها، فما إن تعرفت على عاصي حتى اتفقت معه على لقاءات أثمرت في النهاية اشتراكها في عمل ثنائي اسمه "لما ولمياء"، ثم تطور ذلك الثنائي إلى زواج وزفت إليه عروسة في 1954 ، ولم تتوقف تلك العلاقة عند الزواج الاجتماعي فقد كان زواجا فنيا خالدا، واتسع عالم فيروز الفني يوما بعد يوم وكبرت الأسطورة التي كانت انطلاقتها من الغذاعة السورية والإذاعة اللبنانية، مع حفلات من دمشق وغيرها،
وقد نشأت أسطورة فيروز وتختفي وراءها نهاد حداد تلك الطفلة إلى الأبد، لكن الطفلة لم تختف من وجه الفنانة فيروز التي بقيت تصنع النجاح تلو الآخر إلى يومنا هذا.
عادت فيروز إلى دمشق التي انطلقت منها سنة 1952 وبعد حوالي عشرين سنة من الغياب، لتنطلق من جديد عبر المسارح الديمشقية التي بدأت منها رحلتها الطويلة، ولو أن دمشق التي تزورها هذه المرة ليست دمشق 1952 ولا حتى المنطقة هي نفسها، لكن فيروز تتألق في كل الحالات متحدية تحولا المنطقة وتقلبات السياسة، وفيروز التي تقدم في رحلتها الدمشقية الجديدة مسرحية "صح النوم" التي ألفها زوجها الراحل عاصي الرحباني، تدور أحداثها حول حكاية حاكم مستبد مستهتر تظهر من بين الناس امرأة فقيرة تتحداه، ويكون ذلك التحدي محور المسرحية التي مثلها فيروز، وخلف تلك المسرحية وأحداثها تتجلى حكاية كبيرة هي حكاية محترفي السياسة في تلك المنطقة وفي كل مناطق العالم الأخرى، بدكتاتوريتهم وعبثهم بمصائر الناس، وكيف يتغلب عليهم الفن والإبداع في النهاية، وهو حال فيروز، مع الذين يدّعون بأن في أيديهم مصائر الناس دون غيرهم، وفيروز التي توفي "عاصيها" سنة 1986 جربت بعده عدة ملحيننين أبرزهم فلمون وهبة وزكي ناصيف، و بشكل رئيسي اشتغلت مع ابنها زياد الرحباني الذي قدم لها مجموعة من الأغاني بيّنت قدرته على إبداع لون موسيقي خاص به يستقي من الموسيقى العربية والموسيقى العالمية، وهي نقطة قوة المدرسة الرحبانية عموما واستمرت تلك التجربة طويلا بعد غياب عاصي الرحباني.
وعلى غير عادة السياسيين الذين يحرصون بأن يكونوا متبعين، فقد صنعت فيروز الاستثناء، فزيادة على السياسيين الذين انتقدوها وتهجموا عليها، كان في الجهة المقابلة نفر من السياسيين يتدافعون من أجل حضور عروضها الفنية وفي كلتا الحالتين تغلبت فيروز على السياسة والسياسيين، فقامت بالفعل وتركت للسياسيين رد الفعل، ثم أن الرحلة الدمشقية تلك، التي كانت أقرب إلى الأسطورة منها إلى الحقيقة، وقد توارت فيروز لمدة طويلة ضمن الذكريات الجميلة في مقابل واقع قاس، إلى درجة أن بعضا ممن حضر العرض الأخير لم يصدق إن كان ما يراه بأم عينين حيقة أم مجرد حلم جميل، سرعان ما يستفيق به على واقع كابوسي مؤلم، لم تقتصر على عرض مسرحية "صح النوم" مثلما كان مقررا، بل تحولت إلى احتفالية جماهيرية كبرى بمقدم تلك الفنانة الكبيرة التي صنعت الحدث في كل مراحل حياتها، وتمكنت من تحريك الوضع في المنطقة نحو ديناميكية بعد أن سقط طويلا في مستنقع السياسة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة