التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الكاتب الخيّر شـوّار :على الكُتاب ألا يبيعوا أنفسَهم للشّيطان



قليلون هم الكتّاب الذين يزهدون في الحوارات الصحفية، زهدَ تعفّف لا زهدَ تكبّر، والروائي القاصّ الخير شوار واحد من هؤلاء، كم عرضتُ عليه منذ أربع سنوات حوارا في الإذاعة أو التلفزيون أو في الجرائد!، غير أنه كان في كل مرة يعتذر بالحسنى، لكنه هذه المرة لم يفعل الشيءَ نفسَه، مما أثار اندهاشي، وعندما سألته عن ذلك، قال لي في طفولية حزينة: أحسّ بأنني سأموت قريبا.


حاوره: عبد الرزاق بوكبة*

نادرة هي الحوارات التي أُجريت معك، وكثيرة هي الحوارات التي أجريتها مع الآخرين، كونك صحفيا أيضا، فهل هو الخوف من السؤال؟ أم الزهد في الظهور؟ ·
شوف.. هناك بعض الأمور أعيشها، وبعض السلوكات أسلكها، لا أستطيع تبريرها منطقيا، وأحيانا أجلس مع نفسي وإليها، وأطرح عليها السؤال نفسه، فأجدها مثلا تحبّ الجلوس في الأماكن البعيدة والمظلمة، إلا إذا أُرغِمت على ذلك، ما يؤهلني لأن أشاهد كل شيء، دون أن يراني أحد، ثم إنني أحب الألوان الداكنة التي لا تثير الانتباه، معتقدا أن هذا منسجم مع تهربي من هكذا حوارات .

لكن ألا ترى أن الكاتب إذا أقدم على نشر ما يكتب، لم يعد ملكَ نفسه، بحيث يصبح من حقّ القراء أن يعرفوا آراءَه ومواقفَه التي قد لا يستطيع الإفصاحَ عنها؟ ·
دعني أكون صريحا معك ·

أكثر من الصراحة ··
جزء من تهربي هذا، يتعلق بطبيعة الحوارات الأدبية نفسها، ذلك أن حواراتنا في معظمها لا تنير تجربة الكاتب، بقدر ما تزيدها عتمة !.

هل هذا بفعل نقائصَ في المُحاوَر، أم فيمن يُحاوِر؟ ·
المشكلة لا في هذا ولا في ذاك، بل في نمط الثقافة السائدة في المنابر الإعلامية الجزائرية التي تجبر الداخل إليها على الانسجام مع مفرداتها الجاهزة، ليتحول إلى مُعَتّم جديد وتصبح الحوارات الأدبية موازية للنصوص، ثم إنني أريد من القارئ أن يتلقى نصوصي بمعزل عن أي إكراه، وهذا احترام له على كل حال .

ما هي شروط الحوار الأدبي في رأيك إذن؟ ·
الحوار الثقافي عموما يحتاج قدرا كبيرا من الصراحة والشفافية، كما يحتاج معرفة عميقة بالتجربة المحاوَرَة، واستفزازها من الداخل، أما ما نقرأه اليوم من حوارات، فلا يعدو أن يكون كومة من المجاملات، وإن حدث العكس، فهو مجرد تصفية حسابات .

بما في ذلك «اليوم الأدبي» الذي تشرف عليه منذ أربع سنوات؟ ·
لا أدّعي العصمة من أمراض المشهد الأدبي الجزائري، غير أني أحاول أن تكون لي خصوصيتي، وفي النهاية سوف أحصل على أجر الاجتهاد .

قلت إنك لست معصوما من أمراض المشهد الأدبي الجزائري، هل يمكن أن ترصد لنا بعضها؟ ·
هي كثيرة بحيث يستحيل رصدها .

هذا تهرّب، ثم أليس التهرب من قول الحقيقة، واحدا من هذه الأمراض؟ ·
نعم··· ومنها أيضا الجوائز الأدبية المصطنعة، وتلميع الأسماء المطفأة، وإطفاء الأسماء المضيئة فعلا، والاستيلاء على المنابر الجادة وإجهاضها من الداخل، غياب الدعم عن المشاريع الحقيقية التي تبقى، وتحويل الدعم المخصص لذلك إلى الحسابات الشخصية···إلخ ·

من المسؤول عن هذا الخراب؟ السلطة أم المثقف؟ ·
هي دوامة فيها شراكة بين الطرفين، السلطة تريد أن تروّض المثقف، وتطوعه لأجندتها السياسية الآنية، قافزة على حقيقة صارخة هي: أن بناء أية دولة لا يتم إلا عبر مشروع ثقافي واضح المعالم، والمحسوبون على الثقافة، باعوا أنفسهم بثمن بخس، فضاع القط والشريط .

أين أنت من ذلك؟ ·
وسط الدوامة .

فاعلا أم مفعولا به؟ ·
وجدتني وسطها، وأنا أحاول أن أحصل على البوصلة، في ظل ظروفي التي تعرفها جيدا .

لكن الكثير من القراء لا يعرفونها؟
قد لا يعرف القارئ ظروفنا الحقيقية، لكنه يعرف الدوامة جيدا .

قلت لي: إنك جئت إلى الكتابة الأدبية من باب الخطأ ·
أمر يطول شرحه .

لا تتهرّب يا شوار ··
نشرت أول نص وعمري ست وعشرون سنة، وإلى غاية بداية العشرينات من عمري، لم يخطر ببالي أن أصبح كاتبا، لأنني كنت أفتقد إلى أبسط تقنيات الكتابة .

فما الذي حدث حتى انخرطت فيها من رأسك حتى قدميك؟ ·
كان لي مشروع علمي كبير، وهو أن أصبح مهندسا معماريا مرموقا، ثم فجأة دخلت في أزمة نفسية، كادت أن توصلني إلى الجنون، فاكتشفت في نفسي طاقة قلت إنني إن لم أفجرها فنيا فستقضي علي، خاصة أنني كنت أفكر كثيرا في الانتحار، فكان الأدب أحسن وسيلة لما يسميه النفسانيون بالتطهير .

هل كانت المسألة تتعلق بوضع مادي، أم بوضع روحي، بمعنى هل كان إيمانك مهزوزا؟ ·
شوف... نشأت في عائلة كانت حالها ميسورة، والمادة إلى اليوم لا تعنيني كثيرا، أزمتي كانت روحية أولا وأخيرا .

كيف؟
كنت ملآنَا بأسئلة كبرى حول الماهية والوجود، والكون والفساد، والجوهر والفرد، وإكسير الحياة، وحجر الفلاسفة، وكنت أعيش واقعا لا يقمع هذه الأسئلة فقط، وإنما يقمع صاحبها أيضا .

والدِّين؟ ألم تفكر فيه كبديل لهذا العدم؟ ·
طبعا فكرت، لكنني ازددت شعورا بالغربة .

أنت هنا تحكي عن بداياتك إلى غاية النصف الأول من التسعينيات، والآن هل استتبَّ الأمر؟ ·
أصبحت لا مباليا، ثم لم يعد لي وقت للتفكير في مثل هذه الأمور، بات كل وقتي للعمل الصحفي، الذي استنزف كثيرا من طاقاتي ومن أسئلتي أيضا .

هل تعدّى هذا الاستنزاف إلى موهبتك الأدبية؟ ·
إن اضطررت إلى الراحة التي لم أعرفها منذ سنين، فأنا متأكد من أنني سأكتب الكثير من النصوص، ولدي الآن ثلاث مخطوطات لروايات لا تتوفر على الزمن النفسي والمادي لكتابتها .

هل هي في نفس سياق روايتك الأولى «حروف الضباب»؟ ·
واحدة منها نعم، أما الروايتان الأخريان، فمختلفتان، إحداهما تتناول عبث الحياة في العاصمة .

بمعنى هي ترصد تجربتك في هذه المدينة التي دخلتها قبل خمس سنوات ·
ليس حرفيا، وإنما ترصد هواجس تلك التجربة .

الخير·· هل يمكن أن تذكر لنا بعض محطات معاناتك في العاصمة، كنموذج للكاتب الجزائري الذي يأتي من الداخل؟ ·
الشكوى لغير الله مذلة .

على ذكر روايتك حروف الضباب، قيل إن الطاهر وطار، عاتبك على عدم إطلاعك له عليها، قبل أن تنشرها، ولو أخذتَ برأيه في بعض المفاصل منها، لكانت «آية من الآيات»، كما قال ·
نعم... حدث ذلك، ولحد الآن لم أفهم سر غضب وطار من الأمر!!، حيث قال لي مرة إنها لا تمتّ للرواية بصلة، ومرة قال لي إن كاتب مقدمتها كان من المفروض ألا يكون أقلَّ من بوجدرة .

وهو بهذا يعترض على أن مقدّمها كان الروائي بشير مفتي؟ ·
لم يقل لي ذلك صراحة، ومرة نصحني بأن أتوقف عن الكتابة عشر سنوات على الأقل، متهما إياي بالتسرع !.

وهل ترى نفسك متسرعا فعلا؟ ·
تريد الصراحة؟

أكثر منها ··
لا أعتبر نفسي متسرعا، بقدر ما أعتبر نفسي لم أقل شيئا لحد الآن .

معروف عنك أنك دودةُ كتب، شراءً وقراءةً، هل هذا ما جعلك تقول إنك لم تقل شيئا لحد الآن؟ ·
فقدت منهجية القراءة منذ انخراطي في الريتم العاصمي، حيث أصبحت قراءاتي مضطربة وعبثية، تماما مثل ريتم حياتي العاصمية .

كيف؟ ·
أنا أتنقل من حومة إلى حومة، وفي كل حومة أسكنها مؤقتا، أضيع الكثير من العناوين التي أشتريها على حساب قوتي اليومي .

آخر كتاب ضيّعته؟
موسم الهجرة إلى الشمال، للطيب صالح، و»كنت أميرا» لربيع جابر، حيث كنت لاجئا عند الصحفي بوطالب شبوب في الحي الجامعي بالقبة القديمة

بمن أنت معجب من التجارب الأدبية الجزائرية؟
براغماتية المحرر الأدبي، تمنعني من الخوض مع فضولك

تبدو دبلوماسيا! كأنك تطمح إلى منصب ما
أخشى التاريخ كثيرا، وأريد أن ينصفني في النهاية

تتهرّب من إنصاف الآخرين، وتريد من التاريخ أن ينصفك؟
أنصفت الجميع من خلال عملي في الصحافة الثقافية، التي أمارسها بتجرد تام، بعيدا عن أية ذاتية، وقد قهرت الكاتب الذي يسكنني، فإن كان هناك كاتب لم أنصفه، فهو الخير شوار

والذي بات يُكثر من القول لي هذه الأيام: إنه أصبح يشعر بكونه سيموت قريبا ·
لا أدري.. هي هواجس كانت تراودني سابقا، غابت ثم عادت إلي هذه الأيام، وهي على كل حال، هواجس تُعاش ولا توصف، فقد أموت قريبا .

ما هي إذن وصيتك لمن تعرف من الكتاب؟ ·
أن يعيشوا ذواتهم، وألا يفعلوا كما فعل «فاوست»، حيث باع نفسه للشيطان

* نشر هذا الحوار في ملحق "أوراق" الصادر عن أسبوعية "المحقق" الجزائرية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لعنة كريستوف كلومب التي أصابت أجيال الجزائريين: كشف الغمّة في تاريخ الشمّة

لم يكن الرحالة المستكشف كريستوف كلومب، وهو يبحث عن طريق غربية نحو الهند، أن اسمه سيرتبط إلى الأبد بأمريكا (العالم الجديد)، وبالتبغ وبـ ''الشمة'' أيضا التي غزت الجزائر منذ قرون، ومازالت تسيطر على عقول الناس عندنا، مثلما سيطر ''القات'' ويسيطر على عقول اليمنيين · عندما اكتشف الرحالة الإسباني من أصل إيطالي كريسوف كلومب القارة الأمريكية، اكتشف معها مادة التبغ التي كان يُعتقد بأنها دواء شافي لبعض الأمراض، ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت تنتشر عادة استهلاك هذه المادة في شكل سجائر انطلاقا من إسبانيا والبرتغال قبل أن تكتسح السيجارة العالم وتعود من جديد إلى بلد الهنود الحمر في شكلها الجديد· وغير بعيد عن إسبانيا انتشرت في الضفة الجنوبية للمتوسط عادة من نوع آخر·· التبغ لا يحرق في سجل سجائر وإنما تعاد معالجته إضافة إلى مواد أخرى ليوضع في الفم ويسمى ''الشمة''، أو يسحق تماما ليشم على طريقة الكوكايين والهيروين ويسمى في هذه الحالة ''النفة''، ولئن كانت النفة محصورة إلى حد ما لدى فئة محدودة من الناس، فإن شقيقتها الشمة كثير

زوكربيرغ و"الربعة دورو أنتاع الكبش"

الخير شوار لا يملّ الكثير من الجزائريين من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي من إعادة نسخ صورهم القديمة التي تعود إلى زمن الأبيض والأسود وإعادة نشرها من جديد، مثلما "يبدعون" في نشر كل ما له علاقة بطفولتهم أو ماضيهم البعيد نسبيا، من علب حليب "لحظة"، وعلب السجائر مثل "الأفراز" و"الصافي" و"النسيم"، وعلبة "الهقار" التي تمثل جماعة من التوارق جالسين وأحدهم واقف، التي تذكّر بنكتة مفادها أن أحدهم قال إنه لن يقلع عن التدخين حتى يجلس ذلك "التارقي الواقف"، حتى الأوراق والقطع النقدية على غرار ورقة الخمس دنانير "أنتاع الثعلب" وورقة العشر دنانير الكبير، أو حتى ورقة الخمسمائة دينار التي سُحبت بشكل مفاجئ من التداول سنة 1982 وكشفت حينها عن متسولين وفقراء يمتلكون الأكياس منها. ولا يتردد البعض في نشر روابط من اليوتيوب تمثل مسلسلات ذلك الوقت مثل "ستارسكي وأتش" والمسلسل الموسيقي الأمريكي "فايم" وغيرها كثير. أشكال كثيرة منشورة تملأ الفيسبوك، ربما لا تعرفها الأجيال الجديدة التي تعتمد لغة "العربيز

الباحث فوزي سعد الله: الفنانون اليهود غنوا التراث الجزائري الذي كان تراثهم بحكم انتمائهم للجزائر

يرى الباحث فوزي سعد صاحب كتاب ''يهود الجزائر•• مجالس الغناء والطرب'' الصادر حديثا عن منشورات ''قرطبة'' بالجزائر، أن علاقة يهود الجزائر بالغناء المحلي الجزائري، لم تكن طابو، لكنها تحولت إلى ذلك بفعل أسباب تاريخية معقدة، ويرى أن عودة بعض الفنانين اليهود إلى الغناء بعد انقطاع طويل يعود إلى أسباب كثيرة لا تخلو من التجارة، بعد أن أصبح هذا النوع من الغناء موضة في أوروبا، ويؤكد أن ارتباطهم بهذا النوع من الغناء وجداني ولا علاقة له بالسياسة: منتجين وإن نبغ بعضهم حاوره: الخير شوار وأنت الباحث في علاقة يهود الجزائر بـ ''مجالس الطرب'' المحلي، لماذا تحوّل هذا الموضوع إلى طابو؟ هل هي جناية السياسة على الفن؟ علاقة اليهود بمجالس الطرب الجزائرية لم تولد طابو كما تقول، بل تحولت إلى طابو لأسباب تاريخية • اليهود والمسلمون كانوا يغنون مع بعض في نفس المجالس، في نفس الأجواق الموسيقية، في نفس المدارس والجمعيات الموسيقية على غرار ''المطربية'' و''الأندلسية'' و''الجزائرية - الموصلية''، وحتى في جوق الإذاعة